تفسير سورة الفتح
(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)
[١] هذا الفتح المذكور هو صلح الحديبية ، حين صد المشركون رسول الله صلىاللهعليهوسلم لما جاء معتمرا في قصة طويلة ، صار آخر أمرها أن صالحهم رسول الله صلىاللهعليهوسلم على وضع الحرب بينه وبينهم عشر سنين ، وعلى أن يعتمر من العام المقبل ، وعلى أن من أراد أن يدخل في عهد قريش وحلفهم دخل ، ومن أحب أن يدخل في عهد رسول الله صلىاللهعليهوسلم وعقده فعل. وسبب ذلك أنه لما أمن الناس بعضهم بعضا ، اتسعت دائرة الدعوة لدين الله عزوجل ، وصار كل مؤمن بأي محل كان من تلك الأقطار ، يتمكن من ذلك. وأمكن ذلك للحريص على الوقوف على حقيقة الإسلام ، فدخل الناس في تلك المدة في دين الله أفواجا ، فلذلك سماه الله فتحا ووصفه بأنه فتح مبين ، أي : ظاهر جلي. وذلك لأن المقصود من فتح بلدان المشركين إعزاز دين الله ، وانتصار المسلمين ، وهذا حصل به الفتح ، ورتب الله على هذا الفتح عدة أمور ، فقال :
[٢] (لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ) وذلك ـ والله أعلم ـ بسبب ما حصل بسببه من الطاعات الكثيرة ، والدخول في الدين بكثرة. وبما تحمّل صلىاللهعليهوسلم من تلك الشروط الّتي لا يصبر عليها ، إلا أولو العزم من المرسلين ، وهذا من أعظم مناقبه ، وكراماته صلىاللهعليهوسلم ، أن غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر. (وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ) بإعزاز دينك ، ونصرك على أعدائك ، واتساع كلمتك ، (وَيَهْدِيَكَ صِراطاً مُسْتَقِيماً) تنال به السعادة الأبدية ، والفلاح السرمدي.
[٣] (وَيَنْصُرَكَ اللهُ نَصْراً عَزِيزاً) (٣) ، أي : قويا لا يتضعضع فيه الإسلام ، بل يحصل الانتصار التام ، وقمع الكافرين ، وذلهم ونقصهم ، مع توفر المسلمين ونموهم ، ونمو أموالهم. ثمّ ذكر آثار هذا الفتح على المؤمنين ، فقال : (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ) ، إلى : (وَساءَتْ مَصِيراً).
[٤] يخبر تعالى عن منّته على المؤمنين بإنزال السكينة في قلوبهم ، وهي : السكون والطمأنينة ، والثبات عند نزول المحن المقلقلة ، والأمور الصعبة الّتي تشوش القلوب وتزعج الألباب وتضعف النفوس. فمن نعمة الله على عبده في هذه الحال أن يثبته ويربط على قلبه ، وينزل عليه السكينة ، ليتلقى هذه المشقات بقلب ثابت ، ونفس مطمئنة ، فيستعد بذلك لإقامة أمر الله في هذه الحال ، فيزداد بذلك إيمانه ، ويتم إيقانه. فالصحابة رضي الله عنهم لما جرى بين رسول الله صلىاللهعليهوسلم والمشركين ، من تلك الشروط الّتي ظاهرها أنها غضاضة عليهم ، وحط من أقدارهم ، وتلك لا تكاد تصبر عليها النفوس. فلما صبروا عليها ، ووطنوا أنفسهم لها ، ازدادوا بذلك إيمانا مع إيمانهم. وقوله : (وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) ، أي : جميعها في ملكه ، وتحت تدبيره وقهره. فلا يظن المشركون أن الله لا ينصر دينه ونبيه ، ولكنه تعالى عليم حكيم ، فتقتضي حكمته المداولة بين الناس في الأيام ، وتأخير نصر المؤمنين إلى وقت آخر.
[٥] (لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ) فهذا أعظم ما يحصل للمؤمنين ، أي : يحصل لهم المرغوب المطلوب ، بدخول الجنات ، ويزيل عنهم المحذور بتكفير السيئات. (وَكانَ ذلِكَ) الجزاء المذكور للمؤمنين (عِنْدَ اللهِ فَوْزاً عَظِيماً) ، فهذا ما يفعل بالمؤمنين في ذلك الفتح المبين.
[٦] وأما المنافقون والمنافقات ، والمشركون والمشركات ، فإن الله يعذبهم بذلك ، ويريهم ما يسوؤهم ، حيث كان مقصودهم خذلان المؤمنين ، وظنوا بالله ظن السوء ، أنه لا ينصر دينه ، ولا يعلي كلمته ، وأن أهل الباطل ، ستكون لهم الدائرة على أهل الحقّ ، فأدار الله عليهم ظنهم ، وكانت دائرة السوء عليهم في الدنيا. (وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ) بما