فانصرف عن الخبر إلى معنى آخر وهو الدعاء ، فجاء به أرقّ من الماء وألطف من الهواء.
وأمّا ضمير جمع الفلك في الآية وتوحيده في قوله : (الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ)(١) فالفلك ممّا يجوز جمعه على الفلك أيضا ، فيكون في الجمع بمنزلة الحمر والصفر ، وفي الواحد بمنزلة القفل والحرج (٢) ، وعلّة جمع الفلك على الفلك واللفظ واحد أنّ فعلا يعاقب فعلا على المعنى الواحد نحو : الشغل والشغل ، والبخل والبخل ، وفعل مما يكسّر على فعل كأسد وأسد ووثن ووثن. فكذلك يجمع فعل على فعل.
وهذا باب غريب فيه من جميع ، نحو : الهجان على الهجان (٣) ، والغذامر (٤) على الغذامر ، وعللها حسنة. ولكن الكتاب يرتفع عنها.
(إِنَّما مَثَلُ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ). (٢٤)
فإنّ ماء السماء بينا يجري على وجه الأرض إذ يغور ، ولأنّه ينزل قطرة قطرة ثم يذهب جملة ولأنّ صوب المهاد (٥) يجمّ في الوهاد (٦) دون النجاد (٧) ، مثل الدنيا هي تجتمع عند الأوغاد دون الأمجاد ، ولأن ماء السماء إذا اتصل سال ، فكذلك النعيم إذا انتظم زال ، ولأن الماء يصفو أوله ويكدر غبّره (٨) وآخره. والحياة الدنيا كذلك.
__________________
(١) سورة يس : آية ٤١.
(٢) الحرج : الناقة الطويلة.
(٣) يقال : جمل وناقة هجان ، وإبل هجان : بيض كرام. راجع أساس البلاغة.
(٤) الغذامر : الكثير من الماء. وفي المخطوطة الغذافر وهو تصحيف.
(٥) المهاد : جمع مهد ، وهو النشز من الأرض. أي : المرتفع.
(٦) يقال : عمّ النجاد والوهاد ، وكل نجد ووهد. والوهد : المطمئن من الأرض ، والمكان المنخفض.
(٧) في المخطوطة : البحار. وهو تصحيف. والنجد : ما غلظ من الأرض وأشرف وارتفع.
(٨) غبّر اللبن : بقاياه.