سورة مريم مكية
عدد آياتها ثمان وتسعون آية
١ ـ ٦ ـ (كهيعص) قد بيّنا في أول البقرة اختلاف العلماء في حروف المعجم التي في أوائل السور ، وشرحنا أقوالهم هناك وحدّث عطاء بن السائب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس انه قال : ان كاف من كريم ، وها من هاد ، وياء من حكيم ، وعين من عليم ، وصاد من صادق ومعناه : كاف لخلقه ، هاد لعباده ، يده فوق أيديهم ، عالم ببريته صادق في وعده ، وعلى هذا فان كل واحد من هذه الحروف يدل على صفة من صفات الله عزوجل ، (ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا) أي هذا خبر رحمة ربك زكريا عبده ، ويعني بالرحمة إجابته إياه حين دعاه وسأله الولد (إِذْ نادى رَبَّهُ نِداءً خَفِيًّا) أي حين دعا ربه دعاء خفيا خافيا سرا غير جهر يخفيه في نفسه ، لا يريد به رياء ، وفي هذا دلالة على أن المستحب في الدعاء الإخفاء ، وان ذلك أقرب إلى الإجابة ، وفي الحديث : خير الدعاء الخفي ، وخير الرزق ما يكفي (قالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي) أي ضعف ، وإنما أضاف الوهن إلى العظم لأن العظم مع صلاتبه إذا ضعف وتناقص فكيف باللحم والعصب (وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً) معناه : ان الشيب قد عمّ الرأس ، وهو نذير الموت (وَلَمْ أَكُنْ بِدُعائِكَ رَبِّ شَقِيًّا) أي ولم أكن بدعائي إياك فيما مضى مخيّبا محروما ، والمعنى : انك قد عوّدتني حسن الإجابة وما خيبتني فيما سألتك ، ولا حرمتني الإستجابة فيما دعوتك ، فلا تخيبنى فيما أسألك ، ولا تحرمني إجابتك فيما أدعوك (وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوالِيَ) هم العمومة وبنو العم عن أبي جعفر (ع) ، وكانوا اشرار بني اسرائيل (مِنْ وَرائِي) أي من خلفي (وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً) أي عقيما لا تلد (فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا) أي ولدا يليني فيكون أولى بميراثي (يَرِثُنِي) فالمعنى : انه تهبه لي يرثني (وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ) هو يعقوب بن اسحاق بن ابراهيم ، واستدل أصحابنا بالآية على ان الأنبياء يورثون المال ، وأن المراد بالإرث المذكور فيها المال دون العلم والنبوة بأن قالوا : إن لفظ الميراث في اللغة والشريعة لا يطلق إلّا على ما ينتقل من الموروث إلى الوارث كالأموال ، ولا يستعمل في غير المال إلّا على طريق المجاز والتوسع ، ولا يعدل عن الحقيقة إلى المجاز بغير دلالة أيضا فإن زكريا (ع) قال في دعائه (وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا) أي اجعل يا رب ذلك الولي الذي يرثني مرضيا عندك ، ممتثلا لأمرك ، ومتى حملنا الإرث على النبوة لم يكن لذلك معنى وكان لغوا عبثا ، ألا ترى أنه لا يحسن أن يقول أحد : اللهم ابعث لنا نبيا واجعله عاقلا مرضيا في اخلاقه ، لأنه اذا كان نبيا فقد دخل الرضا وما هو أعظم من الرضا في النبوة ، ويقوي ما قلناه أن زكريا صرّح بأنه يخاف بني عمه بعده بقوله : (وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوالِيَ مِنْ وَرائِي) ، إنما يطلب وارثا لأجل خوفه ، ولا يليق خوفه منهم إلّا بالمال دون النبوة والعلم ، لأنه (ع) كان أعلم بالله تعالى من أن يخاف أن يبعث نبيا من ليس بأهل للنبوة ، وأن يورث علمه وحكمته من ليس لهما بأهل ، ولأنه إنما بعث لاذاعة العلم ونشره في الناس ، فكيف يخاف من الأمر الذي هو الغرض في بعثته.
٧ ـ ١١ ـ (يا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ) معناه : فاستجاب الله دعاء زكريا ، وأوحى إليه : يا زكريا إنا نخبرك على ألسنة الملائكة بخبر يرى السرور به في وجهك وهو أن يولد لك ابن (اسْمُهُ يَحْيى) وقد تقدّم تفسيره في سورة آل عمران (لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا) أي لم يسم أحد قبله باسمه ، وقيل : ان معنى قوله : (لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا) : لم تلد العواقر مثله ولدا ؛ وهو كقوله : (هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا قالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ) فسّرناه في سورة آل عمران (وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً)