قال الحسن إنما قال ذلك على جهة الإستخبار ، أي أتعيدنا شابين ، أم ترزقنا الولد شيخين (وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا) معناه : وقد بلغت من كبر السن إلى حال اليبس والجفاف ونحول العظم (قالَ كَذلِكَ) أي قال الله سبحانه الأمر على ما أخبرتك من هبة الولد على الكبر (قالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ) أردّ عليك قوتك حتى تقوى على الجماع ، وأفتق رحم امرأتك بالولد (وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ) أي من قبل يحيى (وَلَمْ تَكُ شَيْئاً) أي أنشأتك وأوجدتك ولم تك شيئا موجودا ، فإزالة عقر زوجتك ، وإزالة ما يمنع قبول الولد أيسر في الإعتبار من ابتداء الإنشاء (قالَ) زكريا (رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً) أي دلالة وعلامة استدّل بها على وقت كونه (قالَ) الله تعالى (آيَتُكَ) أي علامتك على ذلك (أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَ لَيالٍ سَوِيًّا) أي وأنت سويّ صحيح سليم من غير علة. قال ابن عباس : اعتقل لسانه من غير مرض ثلاثة أيام قال قتادة : اعتقل لسانه من غير بأس ولا خرس فإنه كان يقرأ الزبور ، ويدعو الى الله ويسبحه ولا يمكنه ان يكلم الناس ، وهذا أمر خارج عن العادة (فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرابِ) أي من مصلاه ، وسمي المحراب محرابا لأن المتوجه إليه في صلاته كالمحارب للشيطان على صلاته ، والأصل فيه مجلس الاشراف الذي يحارب دونه ذبا عن أهله. قالوا : وكان زكريا قد أخبر قومه بما بشّر به ، فلما خرج عليهم وامتنع من كلامهم علموا إجابة دعائه فسرّوا به (فَأَوْحى إِلَيْهِمْ) أي أشار إليهم وأومى بيده (أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا) أي صلّوا بكرة وعشيا ، وتسمى الصلاة سبحة وتسبيحا لما فيها من التسبيح.
١٢ ـ ١٥ ـ ثم قال سبحانه (يا يَحْيى خُذِ الْكِتابَ بِقُوَّةٍ) ههنا اختصار عجيب تقديره : فوهبنا له يحيى ، وأعطيناه الفهم والعقل وقلنا له : يا يحيى ، خذ الكتاب ـ يعني التوراة ـ بما قواك الله عليه ، وأيدك به (وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا) أي آتيناه النبوة في حال صباه وهو ابن ثلاث سنين (وَحَناناً مِنْ لَدُنَّا) والحنان : العطف والرحمة ، أي وآتيناه رحمة من عندنا (وَزَكاةً) أي وعملا صالحا زكيا (وَكانَ تَقِيًّا) أي مخلصا مطيعا متقيا لما نهى الله عنه (وَبَرًّا بِوالِدَيْهِ) أي بارا بوالديه ، محسنا إليهما ، مطيعا لهما ، لطيفا بهما ، طالبا مرضاتهما (وَلَمْ يَكُنْ جَبَّاراً) أي متكبرا متطاولا على الخلق (عَصِيًّا) أي عاصيا لربه (وَسَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا) أي سلام عليه منا في هذه الأيام وقيل : وسلامة وأمان له منا ، ومعناه : وأمن له يوم ولد من عبث الشيطان به واغوائه إياه ، ويوم يموت من عذاب القبر ، ويوم يبعث حيا من هول المطلع وعذاب النار.
١٦ ـ ٢٠ ـ ثم عطف سبحانه قصة مريم وعيسى (ع) على قصة زكريا ويحيى (ع) فقال (وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ) أي في كتابك هذا وهو القرآن (مَرْيَمَ) أي حديث مريم وولادتها عيسى وصلاحها ليقتدي الناس بها ، ولتكون معجزة لك (إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِها مَكاناً شَرْقِيًّا) أي انفردت من أهلها إلى مكان في جهة المشرق وقعدت ناحية منهم وقيل : اتخذت مكانا تنفرد فيه للعبادة لئلا تشتغل بكلام الناس ، عن الجبائي ، وقيل : تباعدت عن قومها حتى لا يرونها ، عن الأصم وأبي مسلم ، وقيل : خرجت في يوم شديد البرد فجلست في مشرقة الشمس ، عن عطا (فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجاباً) أي فضربت من دون أهلها لئلا يروها سترا وحاجزا بينها وبينهم (فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا) يعني جبرائيل (ع) وسمّاه الله روحا لأنه روحاني ، وأضافه إلى نفسه تشريفا له (فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً سَوِيًّا) معناه : فأتاها جبرائيل فانتصب بين يديها في صورة آدمي صحيح (قالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا) معناه : إني اعتصم بالرحمن من شرك فاخرج من عندي ان كنت تقيا