فوق ما كان مكنه منه وخوله في ماضي خدمته ، فالله الرءوف الرحيم إذا أثر للابلاغ عنه الأفضل ، أمدّه بتقوى قلبه وتشحذ قريحته وتمكنه من الأخلاق الحميدة والعزائم القوية والحكم المديدة ، كما أيد موسى بحل العقدة من لسانه وإشراكه لهارون إياه في الإرسال. وهو قوله : ( فَأَرْسِلْهُ مَعِي رِدْءاً يُصَدِّقُنِي ) ، وإليه يرجع قوله ( قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يا مُوسى ).
ومعنى الإمداد بالهداية : أن الملوك متى ما اختاروا للابلاغ عنهم من علموا منه الكفاية والاستقلال بما ولوه ، فلا يخلونه من كتب منهم إليه تتضمن الرشد والهداية ، علما منهم بأنه مجبول على صيغة الآدميين ، فالله العلي العظيم متى قلّد عبدا قلائد الرسالة فحكمته تقتضي أن لا يخليه من مواد الإرشاد ، لعلمه أن العلوم المكتسبة لا تنال إلاّ تعريفا ولا تصاب مصالح الكلية إلاّ توقيفا ، وإليه يرجع قوله : ( كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ وَلَوْ لا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ ).
ومعنى التثقيف عند الزلة : ما بعث ملك وافدا يجتلب به الرعية إلى طاعته ، فيرى طبعه مائلا في حال الإبلاغ إلاّ زجره عند أدنى هفوة بأبلغ مزجرة يتفقه بها ، صيانة لمحله وحفظا لحراسته واستقامته ، علما منه بأن من لم ينبه على فلتاته أو شك أن تألفه وتعتاده ، فالله اللطيف بعباده الوافي لأوليائه بالنصر والتأييد لا يعدم وافده وصفيه المرشح لحمل أثقال النبوة التنبيه ولتثقيف ، وإليه يرجع قوله تعالى لنوح ( فَلا تَسْئَلْنِ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ ). وقوله لداود ( فَاحْكُمْ بَيْنَنا بِالْحَقِّ وَلا تُشْطِطْ ) وقوله لسليمان ( وَأَلْقَيْنا عَلى كُرْسِيِّهِ جَسَداً ثُمَّ أَنابَ ). وقوله لمحمّد صلّى الله عليه وسلّم ( وَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ ) و ( لَوْ لا كِتابٌ مِنَ اللهِ سَبَقَ ). وقوله : ( وَإِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْراضُهُمْ ). الآية.
فهذه الخصائص الأربعة لا تنال إلا بالاكتساب والاجتهاد ، لأنها موهبة إلهية وأثرة علوية ، حكمها معلّقة بتدبير من له الخلق والأمر ، لا يظهرها إلاّ في أخص الأزمنة وأحق الأمكنة عند امتساس الحاجة الكلية وإطباق الدهماء على الضلال من البرية ، ومحلّها أعلى من أن يفوز به العقول الجزوية أو تحصلها