دليل القول الثاني
ذهب المشهور إلى أنّ تمايز العلوم بتمايز الموضوعات ، وهو صحيح في الجملة ، لأنّ موضوع كلّ علم داخل تحت نوع خاص ، كعلمي الحساب والهندسة ، فانّ الموضوع في الأوّل من مقولة الكم المنفصل ، ويبحث فيه عن أحوال الأعداد ، والموضوع في الثاني من مقولة الكم المتصل ، ويبحث فيه عن أحكام الخطوط والسطوح والأجسام التعليمية ، ومع هذا المائز الذاتي لا تصل النوبة إلى المائز بالعرض.
ولكن ليس جميع العلوم كذلك ، فانّ العلوم ربّما تتحد موضوعاً وتتعدد وصفاً وتأليفاً حسب الجهات الملحوظة ، فانّ البدن الإنساني موضوع لكلّ من علم الطب والتشريح ، ووظائف الأعضاء ، فبما أنّه يبحث عنه من جهة عروض الصحّة والسقم عليه يكون موضوعاً لعلم الطب ، وبما انّه يبحث فيه لغاية التعرّف على أعضائه وأجزائه ، فهو موضوع لعلم التشريح ، وبما انّه يبحث فيه لغاية التعرّف على وظيفة كلّ عضو ، فهو موضوع لعلم وظائف الأعضاء ، فالعلوم متعددة والموضوع واحد ، فالميز هنا بالمحمولات لا بالموضوعات.
فإن قلت : التمايز في هذا النوع من العلوم أيضاً بالموضوعات ، وذلك لأنّ تمايز العلوم بالموضوعات وتمايز الموضوعات بالحيثيات ، فإذا انضمت الحيثية إلى موضوع العلم يتميز عن العلم الآخر لاختلاف حيثيته معه.
قلت : إنّ هذه الحيثيات ليست إلاّ أُموراً منتزعة من المحمولات المختلفة في هذه العلوم الثلاثة فما هو المحمول في علم الطب غير المحمول في علم التشريح ، والمحمول فيهما غير المحمول في علم وظائف الأعضاء ، وإذا لاحظها الخبير ، يرى بينها اختلافاً ذاتياً ، وينتزع من كلّ واحد حيثية خاصة يوصف بها الموضوع في كلّ علم ، ويتخيل انّ تمايز العلوم ، بالموضوعات وتمايز الموضوعات بالحيثيات ، غافلاً