وبذلك يجاب عمّا يقال بأنّه لولا العلقة الذاتية بين اللفظ والمعنى يلزم الترجيح بلا مرجح ، وذلك لما عرفت من أنّه يكفي وجود التناسب الوهمي والخيالي وغيرهما في انتخاب اللفظ ولا يحتاج إلى المناسبة الذاتية.
إنّ الإمعان في الحياة البشرية الغابرة ، يُثبت بأنّ الحضارة الإنسانية بأبعادها ليست وليدة يوم أو شهر أو سنة ، بل الإنسان خرج من البداوة والحياة الفردية إلى الحياة الاجتماعية بالتدريج فهو عبْر تعمير الأرض بأنحائها المختلفة كان بحاجة شديدة إلى المفاهمة والمكالمة ، وقد خلق اللّه سبحانه مادتها في فطرته ، وقال : ( علّمه البيان ) فالحاجة دعته إلى إفهام ما في ضميره من الحوائج بإنشاء ألفاظ مقابل معان بالتدريج فلو قلنا إنّ لكلّ لغة واضعاً ، فالواضع هو البشر عبر الزمان بإذن اللّه سبحانه بالتدريج ولم يزل الأمر كذلك في مستقبل الحضارة حيث انّ الألفاظ تزداد ، وفق زيادة المعاني.
ذهب المحقّق النائيني إلى أنّ الواضع هو اللّه تبارك وتعالى ، وهو الواضع الحكيم حيث جعل لكلّ معنى لفظاً مخصوصاً باعتبار مناسبة بينهما مجهولة عندنا ، وجعله تبارك وتعالى هذا واسطة بين جعل الأحكام الشرعية المحتاج إيصالها إلى إرسال رسل وإنزال كتب ، وجعل الأُمور التكوينية التي جبل الإنسان على إدراكها كحدوث العطش عند احتياج المعدة إلى الماء ونحو ذلك. فالوضع جعل متوسط بينهما لا تكويني محض حتى لا يحتاج إلى أمر آخر ، ولا تشريعي صرف حتى يحتاج إلى تبليغ نبيّ أو وصيّ ، بل يلهم اللّه تبارك وتعالى عباده على اختلافهم كلّ طائفة بالتكلّم بلفظ مخصوص عند إرادة معنى خاص.