وكاستقلاله بحسن جزاء الإحسان بالإحسان وقبح جزائه بالسوء ، والمقام أيضاً من هذا القبيل فالعقل مستقلّ بقبح العقاب مع تمكّن المولى من البيان ، سواء أكان العقاب في هذه الحالة من مصاديق الظلم أم لا.
ثمّ إنّ الأُمور الثلاثة التالية تؤيّد كون موقف العقل ، عند الشكّ في الحكم الشرعي الإيجابي أو التحريمي ، هو البراءة :
١. انّ النظام السائد بين العقلاء فيما يرجع إلى أمر الطاعة ، هو البراءة ما لم يكن بيان في المقام ، فالرئيس لا يحتج على من دونه في الرتبة والدرجة ، إلّا بما بيّنه وشرحه له وأمره باتّباعه ، ولو قام أحد الموظّفين ، بكلّ ما أُمر به وبُيّن له ، على نحو لم يفته شيء منه ، ولكنّه ترك ما شكّ في مطلوبيته ممّا لم يكن موجوداً في برنامجه ، يعدّ مطيعاً غير عاص ، ولا يحتجّ الرئيس عليه بالشكّ والترديد ، مع أنّه كان متمكناً من البيان ، وما هو إلّا لقضاء فطرتهم بذلك وعقولهم عليه لا أنّهم اتّفقوا على هذا التحديد ، فاتّفاقهم على تلك الضابطة من وحي الفطرة ، ولأجل ذلك صارت القاعدة عالمية لا تختص بقطر دون قطر أو شعب دون شعب ، والسعة والعمومية ـ كما قلنا في محلّه ـ آية كون الحكم فطريّاً نابعاً من صميم ذات الإنسان لا أمراً اتّفق عليه العقلاء لمصالح وأغراض خاصّة.
٢. انّه سبحانه يصرّح في غير واحد من آياته ، بأنّ الغاية من إرسال الرسل ، هو قطع عذر العباد ، وإبطال حجّتهم على الله على نحو لو لا إرسال الرسل ، لكانت الحجّة للعباد على الله تعالى.
يقول سبحانه : (رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكانَ اللهُ عَزِيزاً حَكِيماً)(١) ، فالآية صريحة في أنّه سبحانه أبطل
__________________
(١). النساء : ١٦٥.