المضيّق الخاصّ.
فالواضع إنّما أتى بالحرف في مقام الوضع في الكلام لإفهام ذلك المقصود الخاصّ المضيّق لا بما له من السعة والانطباق على كلّ زمان ومكان ، وكلمة (زيد) بما لها من المفهوم قابلة لأن تكون في كلّ مكان على البدل ، فإذا قيل : إنّه في الدار ، فكلمة (في) تدلّ على أنّه متحيّز بذلك الحيّز الخاصّ في زمان خاصّ. وهكذا إذا قيل : إنّ زيدا يكون في الكوفة في يوم الجمعة. وهكذا السير ، إذ السير من حيث الصدور من الفاعل يمكن أن يتعلّق على البدل بالبلاد المختلفة ، فإذا قلت : أنت سرت من البصرة إلى الكوفة ، فتلك السعة من الانطباق الوسيع على البدل تتضيّق بإدخال كلمة «من» على البصرة وكلمة «إلى» على الكوفة لهاتين المدينتين المعروفتين في العراق دون إيران ومصر والحجاز ولبنان.
فبما أنّ المقاصد تختلف عند قضاء الحاجة إلى بيانها ، فلا جرم يحتاج الواضع الحكيم والمتكلّم العليم إلى وضع ما يدلّ عليها ويكون وسيلة لإفهامها عند قصد الناطق تفهيم تلك الخصوصية ، وليس وعاء وسعة نظره وإشرافه على المعاني والألفاظ الدالّة على المفاهيم المتكثّرة في مقام الوضع أوفى وأمكن وأسهل وأفضل وأبلغ وأفصح من الحروف ، وإلّا لاختار ذلك دون الحروف. ولأجل ذلك اختار الحروف والأدوات وأمثالهما من الهيئات الدالّة على تلك النسب الناقصة ، نظير هيئات المشتقّات ، وهيئة الإضافات والملابسات والتوصيفات.
فكلّ واضع ومتكلّم إنّما هو متعهّد في نفسه وتصوّره بأنّه متى أراد وقصد تفهيم مطلب خاصّ أو حصّة خاصّة من تلك الحصص المتقدّمة من المعنى والمفهوم الذي يكون متعلّق حاجته أن يعيّن ويجعل دالّا ومبرزا في مقام التخاطب ، وهو في المقام حرف من تلك الحروف الموضوعة في اللغة