الحروف أو ما يجري مجراها ، وقد عرفت أنّ الموجود الذهني ليس من سنخ الموجود الخارجي ، فإنّه بنحو الإطلاق من أيّ مقولة كان لا ينطبق على أمر آخر وراء نفسه وذاته ، بخلاف المفهوم الذهني ، فإنّه بالنسبة إلى الخارج عن وعاء الذهن قابل لأن ينطبق على عدّة من الحصص الكثيرة ، ولكنّ الغرض الحتمي ربّما يتعلّق في نفس المواقع بحصّة خاصّة لا بدّ للمتكلّم من إفهامها واستخدام الدالّ الذي يكون هو المبرز لها عند المخاطبة. وأنت عارف حسب ما تقدّم أنّ ذلك الدالّ منحصر في الحروف وما يحذو حذوها من أمثالها من الأدوات الدلالية.
ومن هذا البيان انقدح أنّ الناطق والمتكلّم ربّما يقصد تفهيم حصّة خاصّة من المعنى يجعل مبرزه الحرف أو ما يقوم مقامه ، كذلك إذا قصد تفهيم حصّة خاصّة من اللفظ يجعل كاشفة ومبرزه ذلك.
فالحرف كما يدلّ على تضييق المعنى وتخصيصه بخصوصية ما ، كذلك يدلّ على تضييق اللفظ وتقييده بقيود ما ، فإنّ الغرض كما قد يتعلّق بإيجاد طبيعي اللفظ على ما هو عليه من الإطلاق والسعة ، فإنّه يتعلّق بتفهيم حصّة خاصّة من ذلك الطبيعي كالصنف أو المثل ، فالمظهر والمبرز لذلك ليس إلّا الحرف أو ما يشبهه ، إذ من الواضحات أنّه لا فرق في إفادة الحروف التضييق بين الألفاظ والمعاني.
فكلمة (في) في قولك «زيد في ضرب زيد فاعل» تدلّ على تخصّص طبيعي لفظ زيد بخصوصيّة ما من الصنف أو المثل ، كما أنّها في قولك : «الصلاة في المسجد حكمها يكون كذا» تدلّ على أنّ المراد من الصلاة ليس هو الطبيعة المطلقة السارية إلى كلّ فرد ، بل خصوص حصّة منها ، وهي عبارة عن الصلاة في خصوص المسجد.