وهذا التقريب منهم من البراهين المسلّمة الواضحة على أنّ حضور المعنى في الذهن من اللفظ إنّما يكون من البديهيات بلا احتياج إلى التفكّر ، بل هذا الانتقال والتصوّر من اللفظ عند سماعه بلغ من الوضوح إلى حدّ المحسوسات غير القابلة للإنكار ، فيكون المعنى في الذهن معلول مجرّد سماع اللفظ عند الاستعمال فقط.
خلافا لجماعة من المحقّقين حيث ذهبوا إلى الثاني ، أعني انحصار الدلالة الوضعيّة بالدلالة التصديقية (١) ، والحقّ أنّ هذا القول أقرب إلى التصديق عند صاحب النظر الدقيق لا القول الأوّل.
وتقريب ذلك على ما تقدّم من مسلكنا في بيان معنى الوضع ـ بأنّه عبارة عن التعهّد والالتزام ـ لا يحتاج إلى البرهان والاستدلال ، بل هو من أوضح الواضحات ؛ إذ من البديهي أنّه لا مفهوم للالتزام بكون اللفظ دالّا على معناه ولو وقع في كلام من لا شعور له بكلامه ، كما إذا صدر منه في حال النوم والغشية بلا قصد واختيار ، بل نظير ما إذا صدر هذا الصوت من ذلك اللفظ من وقوع حجر على الآخر ؛ إذ من البديهي أنّ هذا السنخ من الدلالة خارج عن حيطة الاختيار ، فكيف يعقل أن يكون متعلّقا للعهد والالتزام.
فعندئذ لا مفرّ إلّا بالالتزام بانحصار علقة الوضعية بالدلالة التفهيمية والتصديقية التي تنطبق على خصوص صورة قصد تفهيم المعنى من اللفظ وإرادته منه عند استعماله ، بلا فرق بين ما كانت الإرادة تفهيمية مختصّة فقط ، أم جدّية معها أيضا ، إذ أنّ ذلك المعنى إنّما يكون أمرا اختياريا قابلا لأن يتعلّق به العهد والالتزام بالوضوح والإشراق. وقد تقدّم أنّ اختصاص الدلالة الوضعية
__________________
(١) منهم المحقّق الحائري قدسسره في الدرر ١ : ٢٤ ، الطبعة الجديدة.