وعلى ذلك فلا يمكن استعمال اللفظ في المعنيين على نحو الاستقلال ، لأنّ لازمه فناء اللفظ في كلّ منهما في لحظة فاردة وآن واحد ، وهو من المحالات الأوّلية. كيف لا ، مع أنّ إفنائه في أحدهما وجعله وجها وعنوانا له يستحيل أن يجتمع مع إفنائه في الآخر وجعله وجها وعنوانا له ، فاللفظ الواحد لا يعقل أن يكون وجودا لمعنيين مستقلّين في وقت واحد. وهذا مبتن على أن تكون حقيقة الوضع عبارة عن جعل وجود اللفظ وجودا تنزيليا للمعنى ، ولكن قد تقدّم بما لا مزيد عليه مفصّلا بطلان ذلك كالشمس عند الزوال.
بخلاف مسلكنا المختار بأنّ الوضع في الحقيقة عبارة عن التعهّد والالتزام النفساني بإراءة ما في النفس والاعتبار باللفظ في مقام التفهيم والتفهّم ، فلا مانع من ذلك ، لأنّ الاستعمال ليس إلّا فعليّة ذلك التعهّد وجعل اللفظ علامة لإبراز ما قصد المتكلّم تفهيمه ، لأنّ الواضع تعهّد والتزم بأنّي كلّما قصدت تفهيم المعنى الفلاني أتكلّم بهذا اللفظ من الكلام على نحو يكون اللفظ مرآة وعلامة للمعنى ، ولا مانع حينئذ من جعله علامة لإراءة المعنيين المستقلّين.
فاللفظ على هذا المسلك لا يكون إلّا علامة لإبراز ما في افق النفس من المعنى ، كما يكون نصب العلم والمنار والتحجير على رأس الفرسخ علامة لإبراز هذا المقدار من المسافة في افق الأرض ، وهو أي (ما في الافق) قد يكون معنى واحدا ، فاللفظ علامة لإبرازه ، كعلاميّة نصب المنار والعلم لإبراز معنى واحد ، وقد يكون مجموع المعنيين ، وقد يكون أحدهما لا بعينه ، كما عرفت بيان ذلك عند تفسير الاشتراك. وقد يكون كلّ من المعنيين مستقلا ، فيكون الاستعمال بالمقايسة إلى الوضع بمنزلة الفرد إلى الكلّي من حيث الفعلية.
فإذن لا مانع من أن يكون اللفظ الواحد علامة لعدّة من المعاني بحسب الإمكان ، كما لا مانع من أن يجعل لفظ واحد علامة لإرادة تفهيم كلّ واحد منها