والواقع أنّ هذه الأحكام التي وردت استثناء من الشارع غير معلّلة بالحاجة لتسري العلّة من طريق القياس إلى غيرها ممّا يشبهها (١) ، واحتمال كونها مقصورة على موضعها ـ لو أمكن استنباطها ـ غير بعيد ، وإلّا فما معنى قصر الشارع الاستثناء على الاضطرار في رفع الأحكام التحريميّة إذا كانت الحاجة ـ وهي دون الضرورة ـ كافية في رفع اليد عنها ، والترخيص في ارتكابها؟ وكان بوسعه أن يذكر الحاجة اكتفاء بها ؛ لأنّ ذكرها ـ لو كان هو الأساس ـ يغني عن ذكر الضرورة كما هو واضح.
ثانيا : قاعدة «الضرورات تقدّر بقدرها» (٢)
هذه القاعدة في الواقع عقلية ، تقتضيها مناسبة الحكم والموضوع ، وقريب منها ما ورد على ألسنة بعض الفقهاء أمثال القواعد :
__________________
١ ـ ولذا ذكر الشيخ محمد الحسين آل كاشف الغطاء بأنّ هذه القاعدة لا تصحّ على أصول مذهب الإمامية ؛ فإنّ قاعدة «نفي الضرر» وإن كانت ترفع الأحكام الواقعية ، مثل : وجوب الغسل ، والوضوء ، والصوم ، وسلطنة الناس على أموالهم ، ولكنّها لا تشرّع حكما ، ولا تجعل الباطل صحيحا ، وإنّما ترفع الحرمة التكليفية بالضرورة ، أي العقوبة فقط ، لا سائر الآثار. فلو كان بعض البيوع باطلا وحراما ـ كالربا ـ فالضرورة لا تجعله عقدا صحيحا كسائر البيوع وإن أحلّته لمن اضطرّ إليه ، فلو ارتفعت الضرورة وجب ردّ كلّ مال إلى صاحبه مع الإمكان.
وذكر البعض من أنّ غير المنصوص ، بل المنصوص على عدم مشروعيته ، وحظره من وسائل الحياة ، يجوز سلوك الطريق المنصوص على حظره عند الحاجة إليها.
وكان هذا الباب مفتوحا على مصراعيه عند فقهاء المذاهب الأربعة المشهورة ويسمّونه : باب المصالح المرسلة.
أمّا عند فقهائنا الإمامية فهذا الباب موصد بكلّ ما يتّسع له المجال من الإقفال ، وعندنا «إنّ حلال محمد حلال إلى يوم القيامة ، وحرامه حرام إلى يوم القيامة». تحرير المجلّة ١ : ١٤٨ ـ ١٥٠. بتصرّف.
٢ ـ وردت هذه القاعدة في بعض كتب القواعد الفقهية بصيغة : «ما أبيح للضرورة يقدّر بقدرها». راجع : الأشباه والنظائر للسيوطي ١ : ٢١٢ ، والأشباه والنظائر لابن نجيم : ٨٦ ، والمنثور في القواعد ٢ : ٧٠.