المعارف الإلهيّة ، فإنّ من نظر في سائر الكتب السماويّة ، وزبر العرفاء الربّانيّة ، عرف أنّ ما في جميعها من المعارف بالنسبة إلى ما في القرآن المجيد كالقطرة بالإضافة إلى البحر المحيط ، ومثل علم الحكمة والكلام ، وكعلم الأخلاق ، وعلم الزهد في الدنيا ، وتفاصيل الآخرة ، ومثل علم الفقه من العبادات والمعاملات والسياسات.
ومنها : اشتماله على الإخبار بالمغيّبات عن جزم ويقين ، كقوله تعالى في الآية السابقة : ﴿وَلَنْ تَفْعَلُوا﴾ وقوله تعالى : ﴿قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ﴾(١) وقوله تعالى : ﴿فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللهُ﴾(٢) وقوله تعالى : ﴿غُلِبَتِ الرُّومُ* فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ﴾(٣) وقوله تعالى : ﴿لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللهُ آمِنِينَ﴾(٤) وقوله تعالى : ﴿لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذىً وَإِنْ يُقاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ﴾(٥) . إلى غير ذلك ، فإنّ هذه الآيات ونظائرها إخبار بامور قبل وقوعها ، ثمّ وقعت مطابقة لها.
ومنها : شدّة تأثير القرآن العظيم في النفوس ، فإنّه ما من كتاب سماويّ أو معجزة من معجزات الأنبياء السّلف له تأثير في القلوب كتأثيره.
ثمّ أنّه تعالى بعد ما استدلّ على وجوده وكماله ووجوب عبادته بمخلوقاته ، وعظيم نعمائه ، وعلى رسالة عبده وإعجاز كتابه ، بعجز جميع الخلق عن إتيان سورة مثله ، شرع بقوله : ﴿فَاتَّقُوا النَّارَ﴾ الآية ، في ذكر المعاد وبيان عقاب الكفّار في الآخرة.
﴿وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا
الْأَنْهارُ كُلَّما رُزِقُوا مِنْها مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقاً قالُوا هذَا الَّذِي رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ
مُتَشابِهاً وَلَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيها خالِدُونَ (٢٥)﴾
ثمّ أردفه بذكر ثواب المؤمنين بقوله ﴿وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا﴾ بألسنتهم وقلوبهم ﴿وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ﴾ بجوارحهم ﴿أَنَّ لَهُمْ﴾ بالاستحقاق والتفضّل ﴿جَنَّاتٍ﴾ وبساتين عديدة ، إذ في التعدّد حظّ ليس في الانفراد.
__________________
(١) آل عمران : ٣ / ١٢.
(٢) البقرة : ٢ / ١٣٧.
(٣) الروم : ٣٠ / ٢ و٣.
(٤) الفتح : ٤٨ / ٢٧.
(٥) آل عمران : ٣ / ١١١.