ثمّ أنّه بعد ما بيّن كيفيّة حفظ رابطة الوداد بين خلقه ، وهو ببذل المال وحسن الكلام والأخلاق ، بيّن ما به يحفظ الرّبط بين العبد وذاته المقدّسة ، وهو بالعبادات البدنيّة والماليّة :
أمّا البدنيّة ، فلمّا كان أهمّها الصّلاة ، قال : ﴿وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ﴾ بحفظ مواقيتها وإتمام ركوعها وسجودها وأداء حقوقها وشرائطها.
وأمّا الماليّه ، فلمّا كان أهمّها الزكاة الواجبة ، قال : ﴿وَآتُوا الزَّكاةَ﴾ وفيه دلالة على أنّ المراد من الإحسان بذي القربى واليتامى والمساكين ، غير الزّكاة.
ثمّ لمّا كان بيان هذه التكاليف التي هي من المحسّنات العقليّة وأخذ الميثاق على العمل بها نعمة من الله عليهم حيث إنّه تربية وهداية ، ذمّهم بأنّهم أساءوا على أنفسهم بجهلهم وعدم تلقّيهم هذه النعمة العظيمة بالقبول بقوله : ﴿ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ﴾ أيّها اليهود عن الوفاء بالعهد الذي أدّاه إليكم أسلافكم ﴿إِلَّا قَلِيلاً مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ﴾ عن العهد غير معتنين به.
﴿وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِماءَكُمْ وَلا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ ثُمَّ
أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (٨٤) ثُمَّ أَنْتُمْ هؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً
مِنْكُمْ مِنْ دِيارِهِمْ تَظاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسارى
تُفادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْراجُهُمْ أَ فَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتابِ وَتَكْفُرُونَ
بِبَعْضٍ فَما جَزاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذلِكَ مِنْكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ
الْقِيامَةِ يُرَدُّونَ إِلى أَشَدِّ الْعَذابِ وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (٨٥)﴾
ثمّ بعد المنّة عليهم بنعمة هدايتهم إلى الأعمال الحسنة ، بيّن منّته عليهم بنعمة نهيهم عن الأعمال القبيحة التي أقبحها الإضرار بالمرتبطين إليهم بالنّسب والدّين ، فإنّ جميع المنتسبين بالنّسبتين ، بمنزلة شخص واحد ، والإضرار عليهم أقبح من الإضرار على النّفس ، بقوله : ﴿وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ﴾ والعهد الأكيد منكم حيث حكمنا عليكم التزمتم بايمانكم بالعمل به ، وهو أنّه ﴿لا تَسْفِكُونَ﴾ ولا تهرقون ، ظلما ﴿دِماءَكُمْ﴾ ولا تقتلون بعضكم بعضا ﴿وَلا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ﴾ أي بعضكم بعضا.
﴿مِنْ دِيارِكُمْ﴾ فإنّ سفك الدّماء وإخراج المؤمنين من ديارهم من أشدّ الظلم وأقبح الفساد.
﴿ثُمَ﴾ بعد الميثاق ﴿أَقْرَرْتُمْ﴾ والتزمتم به عند أنفسكم ﴿وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ﴾ بذلك الالتزام والعهد