عَهْداً نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (١٠٠)﴾
﴿وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ آياتٍ بَيِّناتٍ﴾ دالّات على صدقك في نبوّتك وفي جميع ما تخبر به ، موضّحات عن كفر من شكّ فيها ﴿وَما يَكْفُرُ بِها﴾ وما يجحدها ﴿إِلَّا الْفاسِقُونَ﴾ الخارجون عن طاعة الله وولايته ، والمتجاوزون عن كلّ حدّ مستحسن في العقل والشّرع ، فإنّ من يكون بصفة التمرّد مجترئ على الكفر بالآيات.
عن ابن عبّاس رحمهالله : أنّ اليهود كانوا يستفتحون على الأوس والخزرج برسول الله صلىاللهعليهوآله قبل مبعثه ، فلمّا بعث من العرب كفروا به وجحدوا ما كانوا يقولون فيه ، فقال لهم معاذ بن جبل : يا معشر اليهود اتّقوا الله وأسلموا ، فقد كنتم تستفتحون علينا بمحمّد صلىاللهعليهوآله ونحن أهل الشّرك ، وتخبروننا أنّه مبعوث ، وتصفون لنا صفته. فقال بعضهم : ما جاء لنا بشيء من البيّنات ، وما هو بالذي كنّا نذكر لكم ، فأنزل الله تعالى هذه الآية (١) .
ولعلّ المراد من الآيات القرآن وسائر المعجزات ، مثل امتناعهم عن المباهلة ، وعن تمنّي الموت ، وإشباع الخلق الكثير من الطّعام القليل ، ونبوع الماء من بين أصابعه ، وانشقاق القمر ، وغير ذلك.
ثمّ أنكر عليهم كفرهم بالآيات إعظاما له ، وعطف عليه توبيخهم على نقض عهد الأيمان بمحمّد صلىاللهعليهوآله إذا ظهر ، وتعاهدهم على إخراج المشركين من ديارهم إذا هاجر إليهم ، وأن لا يعينوا عليه أحدا بقوله : ﴿أَ وَكُلَّما عاهَدُوا عَهْداً﴾ من العهود المزبورة ﴿نَبَذَهُ﴾ ونقضه ﴿فَرِيقٌ مِنْهُمْ﴾ حيث كفروا بمحمّد صلىاللهعليهوآله ولم يؤمنوا به ، وأعانوا قريشا عليه يوم الخندق ، وليس هذا الفريق قليلا منهم ﴿بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ﴾ بنبوّته أبدا بغيا وحسدا.
﴿وَلَمَّا جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا
الْكِتابَ كِتابَ اللهِ وَراءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ (١٠١)﴾
ثمّ أنّه تعالى بعد توبيخهم على الكفر بالمعجزات ونقض العهود ، وبّخهم على كفرهم بالتّوراة وسائر الكتب السّماويّة بقوله : ﴿وَلَمَّا جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ﴾ وهو محمّد صلىاللهعليهوآله الذي هو ﴿مُصَدِّقٌ﴾ ومطابق [ في ] صفاته ﴿لِما مَعَهُمْ﴾ من التّوراة وسائر الكتب السّماويّة ﴿نَبَذَ﴾ ورمى
__________________
(١) تفسير الرازي ٣ : ١٩٩.