﴿فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ﴾ من اليهود ﴿كِتابَ اللهِ﴾ من التّوراة وغيرها ﴿وَراءَ ظُهُورِهِمْ﴾ وأعرضوا وتركوا العمل به ﴿كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ﴾ أنّ الكتاب كتاب الله ، وأنّ ما فيه حقّ. فكما أنّ الجاهل بأنّ التّوراة كتاب الله ، لا يرى ترك العمل به قبيحا لا يرى هؤلاء العالمون بأنّ التّوراة كتاب الله ترك العمل بها قبيحا وشينها (١) على أنفسهم ، وهذا من غاية كفرهم وخباثتهم فمثلهم ﴿كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً﴾(٢) .
﴿وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ وَما كَفَرَ سُلَيْمانُ وَلكِنَّ
الشَّياطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبابِلَ هارُوتَ
وَمارُوتَ وَما يُعَلِّمانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ
مِنْهُما ما يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَما هُمْ بِضارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ
اللهِ وَيَتَعَلَّمُونَ ما يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَراهُ ما لَهُ فِي الْآخِرَةِ
مِنْ خَلاقٍ وَلَبِئْسَ ما شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (١٠٢) وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا
لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ خَيْرٌ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (١٠٣)﴾
ثمّ ذكر الله تعالى نوعا آخر من قبائح أعمالهم ، وهو إقبالهم إلى السّحر وعملهم به بقوله : ﴿وَاتَّبَعُوا﴾ بعد ترك اتّباع كتب الله ﴿ما تَتْلُوا﴾ وتقرأه ﴿الشَّياطِينُ﴾ وكفرة الجنّ من كتب السّحر ﴿عَلى﴾ عهد ﴿مُلْكِ سُلَيْمانَ﴾ وسلطنته ، أو افتروه على ملكه بأن ألقوا لملأ بني إسرائيل أن سليمان بن داود عليهماالسلام إنّما وجد ذلك الملك بسبب هذا العلم.
ثمّ لمّا كان السّحر بمنزلة الكفر في القباحة والمعصية نزّه الله سبحانه سليمان عنه بقوله : ﴿وَما كَفَرَ سُلَيْمانُ﴾ بعمل السّحر ﴿وَلكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا﴾ حيث عملوا بالسّحر وعلّموه النّاس.
ولعلّ اليهود في زمان سليمان أنكروا نبوّته ، ونسبوا جميع ما كان له من خوارق العادة وتسخير الرياح وعلمه بمنطق الطّير وسائر معجزاته إلى السّحر ، كما أنكر يهود عصر النبيّ صلىاللهعليهوآله نبوّته ، ونسبوا الآيات والمعجزات من القرآن المجيد ، وشقّ القمر ، وطاعة الجمادات له ، وتسبيح الحصاة في كفّه وغير ذلك إلى السّحر. وقالوا : نحن أيضا نظهر العجائب بالسّحر ، ونستغني عن الانقياد لمحمّد ، ولذا
__________________
(١) كذا ، والظّاهر وشينه ، أي شينى الترك.
(٢) سورة الجمعة : ٦٢ / ٥.