بصوت يقرع ، ولا بنداء يسمع ، بل بصرف إرادته ﴿فَيَكُونُ﴾ ويوجد بمجرّد نفاذ قدرته ، ولا يحتاج في خلقه إلى فكر ، واستعانة بشيء ، وتحقّق مادّة ، ومضيّ مدّة ، فتمّ البرهان القاطع على امتناع أن يكون شيء ممّا سواه ولدا له ، حيث إنّ لازم الولادة هو الحدوث والمسبوقيّة بالعدم ، وكلّ مسبوق بالعدم مخلوق بإفاضة الوجود عليه من الواجب ، والمخلوق لا يعقل أن يكون ولدا لخالقه ، والوالد لا يمكن أن يكون موجدا ومالكا. ولذا احتجّ في مواضع من الكتاب العزيز على القائلين بأن الله ولدا بأنّ من في السّماوات والأرض عبيد له ، وأنّه إذا قضى أمرا يقول له : كن فيكون.
﴿وَقالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ لَوْ لا يُكَلِّمُنَا اللهُ أَوْ تَأْتِينا آيَةٌ كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ
مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الْآياتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (١١٨)﴾
ثمّ إنّه تعالى لمّا بيّن شركهم واتّخاذهم الولد لله ، عقّبة بذكر شبهاتهم السّخيفة في النبوّة ، وإنكارهم لها عن تعنّت وعناد بقوله : ﴿وَقالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ﴾ من جهلة قريش والمشركين وسفهاء أهل الكتاب ﴿لَوْ لا يُكَلِّمُنَا اللهُ﴾ كما تدّعي أنّه كلّم موسى في الطّور وكلّمك في معراجك ﴿أَوْ تَأْتِينا﴾ من السّماء. ﴿آيَةٌ﴾ من كتاب وصحيفة ، كما قال تعالى : ﴿بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتى صُحُفاً مُنَشَّرَةً﴾(١) وقال : ﴿يَسْئَلُكَ أَهْلُ الْكِتابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتاباً مِنَ السَّماءِ﴾(٢) .
وتقرير الشبهة أنّ الله حكيم ، والحكيم إذا أراد الوصول إلى غرض لا بدّ أن يختار أقرب طرق الوصول إليه ، فإذا أراد الله تعالى هدايتنا ، فأقرب الطرق إليها أن يكلّمنا بنفسه مشافهة ، كما كلّم الملائكة والأنبياء فإنّه أقرب إلى التّصديق وأبعد من الشّكوك والشبهات ، أو ينزّل عليها كتابا يصرّح فيه بنبوّتك ، فردّ الله عليهم بقوله : ﴿كَذلِكَ﴾ القول السّخيف ﴿قالَ الَّذِينَ﴾ كابروا أنبياءهم ﴿مِنْ قَبْلِهِمْ﴾ من الامم الماضية ﴿مِثْلَ قَوْلِهِمْ﴾ من التعنّتات والاقتراحات ، بل فاقوا عليهم بقولهم : ﴿أَرِنَا اللهَ جَهْرَةً﴾(٣) وقالوا لعيسى : ﴿هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ﴾(٤) فهؤلاء والسّابقون عليهم من المصرّين على الكفر ﴿تَشابَهَتْ﴾ وتماثلت ﴿قُلُوبُهُمْ﴾ في العمى والعناد وعدم التفقّه ، لأنّ المكذّبين للرّسل طينتهم واحدة وأقوالهم وأفعالهم متماثلة.
﴿قَدْ بَيَّنَّا الْآياتِ﴾ الباهرات ، وأوضحنا صدقك بهذا القرآن الذي هو من أعظم المعجزات،
__________________
(١) المدثر : ٧٤ / ٥٢.
(٢) النساء : ٤ / ١٥٣.
(٣) النساء : ٤ / ١٥٣.
(٤) المائدة : ٥ / ١١٢.