الله رسولا في مكّة كان من المسلّمات ، ولم يظهر فيها مدّع للنبوّة إلّا وجوده المقدّس ، وكانت هذه الآيات بفصاحتها واشتمالها على الأخبار الغيبيّة معجزة ظاهرة له ، إذ لم يكن عليهالسلام قارئا للكتب ومجالسا لعلماء أهل الكتاب ، فثبت أنّه صلىاللهعليهوآله هو مسؤول إبراهيم عليهالسلام.
إن قيل : كيف يمكن القطع بأنّ جميع ما أخبر به من قصّة إبراهيم ، من إتمامه الكلمات ، وبناء البيت ، وسائر الدعوات ، كان مسلّما بين أهل الكتاب ، ومسطورا في الكتب ؟
قلنا : لو لم يكن بينهم من الوضوح بمكان ، لتسارعوا إلى تكذيبه مع شدّة عداوتهم وحرصهم على إطفاء نوره ، ولو كذّبوه في هذه الامور لنقل إلينا ، ولو بأخبار الآحاد.
عن ( المجمع ) : عن السجاد عليهالسلام (١) : « ما أحد على ملّة إبراهيم إلّا نحن وشيعتنا ، وسائر النّاس منها براء » (٢) .
﴿إِذْ قالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ (١٣١) وَوَصَّى بِها إِبْراهِيمُ بَنِيهِ
وَيَعْقُوبُ يا بَنِيَّ إِنَّ اللهَ اصْطَفى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ
مُسْلِمُونَ (١٣٢)﴾
ثمّ ذكر الله علّة اصطفائه بقوله : ﴿إِذْ قالَ لَهُ رَبُّهُ﴾ حين خرج من الغار على ما قيل ، بالإلهام في قلبه ، وتقوية عقله ، وتنفيذ بصيرته ، وإرادة الآيات الباهرات ﴿أَسْلِمْ﴾ وأخلص وجهك لله ﴿قالَ﴾ إبراهيم عليهالسلام مبادرا إلى الطاعة والانقياد باستعداده الكامل : ﴿أَسْلَمْتُ﴾ وجهي وأخلصت قلبي ﴿لِرَبِّ الْعالَمِينَ﴾ بالتّوحيد الكامل ، والعرفان التّامّ.
والظاهر أنّه كان إقراره بلسان حاله ورسوخ المعرفة في شراشر وجوده ، لا بلسان قاله ، فلمّا كملت نفسه بمعرفة الله بادر إلى الدّعوة إلى ملّة التّوحيد والإسلام.
﴿وَوَصَّى بِها إِبْراهِيمُ بَنِيهِ﴾ قبل سائر النّاس شفقة بهم ، قيل : كانوا أربعا وقيل : ثمان (٣) .
﴿وَيَعْقُوبُ﴾ : وصّى بها بنيه أيضا كجدّه إبراهيم عليهالسلام وكانت وصيّته أن قال : ﴿يا بَنِيَّ إِنَّ اللهَ
__________________
(١) في المحاسن : الحسين بن علي عليهماالسلام.
(٢) المحاسن ١ : ١٤٧ / ٥٤ ، تفسير الصافي ١ : ١٧٣ ، ولم نعثر عليه في مجمع البيان.
(٣) تفسير أبي السعود ١ : ١٦٣.