ثمّ أنّه تعالى بعد ما ذكر أنّ أهل الكتاب عالمون بأنّ تحويل القبلة حقّ ، بيّن أنّ إصرارهم على المخالفة من جهة العناد واللّجاج بقوله : ﴿وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ﴾ من اليهود والنّصارى ﴿بِكُلِّ آيَةٍ﴾ باهرة وبرهان قاطع على أنّ التوجّه إلى الكعبة حقّ ﴿ما تَبِعُوا قِبْلَتَكَ﴾ لأنّ مخالفتهم ليست عن شبهة حتّى يزيلها البرهان ، بل عن عناد ولجاج ومكابرة ، لعلمهم بكونها حقّا ، والمكابر لا تنفعه الدلائل ﴿وَما أَنْتَ بِتابِعٍ قِبْلَتَهُمْ﴾ فليس لهم أن يطمعوا في رجوعك إليها.
نقل أنّهم كانوا يتناجون في ذلك ويقولون : لو ثبت محمّد على قبلتنا ، لكنّا نرجو أن يكون صاحبنا الذي ننتظره. وكانوا يطمعون في رجوعه إلى قبلتهم (١) .
ثمّ وبّخهم الله في قوله : ﴿وَما بَعْضُهُمْ بِتابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ﴾ بأنّهم مع اتّفاقهم على مخالفة النبيّ صلىاللهعليهوآله في قبلته ليسوا متّفقين على قبلة واحدة ، حيث إنّ اليهود كانوا يستقبلون إلى الصّخرة ، والنّصارى إلى المشرق ، بل كلّ معرض عن قبلة الآخر ، لتصلّب كلّ في التي يهواها بهواه.
ثمّ أنّه تعالى بعد بيان أنّ دينهم وثباتهم على قبلتهم صرف متابعة الهوى ، وأنّها من أشدّ المعاصي ، بالغ في تهديدهم بالكناية التي هي أبلغ من التّصريح ، حيث وجّه الخطاب إلى نبيّه صلىاللهعليهوآله بقوله : ﴿وَلَئِنْ﴾ وافقت أهل الكتاب و﴿اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ﴾ ومشتهيات نفوسهم في أمر القبلة ﴿مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ﴾ بفضل الله ورحمته ﴿مِنَ الْعِلْمِ﴾ بأنّ قبلة الله هي الكعبة ﴿إِنَّكَ إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ﴾ على نفسك بتعريضها للهلاك وأشدّ العذاب ، مع أنّك أشرف الكائنات عند الله ، وأحبّ الخلق إليه ، فكيف بهؤلاء الكفرة وهم أبغض الخلق عنده !
﴿الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ
الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (١٤٦)﴾
ثمّ أكّد سبحانه أنّ مخالفتهم للنبيّ صلىاللهعليهوآله في دينه مطلقا ، قبلة كان أو غيرها ، ليست إلّا عن عناد وعصبيّة وهوى ، لا للشّبهة في نبوّته وصدقه ، بقوله : ﴿الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ﴾ وكان لهم فهم دراسته ، كالأحبار والرّهبان ﴿يَعْرِفُونَهُ﴾ بالرّسالة لمعرفتهم بعلائمه المذكورة في الكتب السماويّة
__________________
(١) تفسير الرازي ٤ : ١٢٦.