وفي التّكنية عنهم بضمير الغائب إشعار بالإعراض عنهم لعدم قابليّتهم للمخاطبة لفرط حماقتهم ، فكأنّه تعالى وجّه الخطاب إلى العقلاء ، وقال : انظروا أيّها العقلاء إلى هؤلاء الحمقى السّفهاء ، أنّهم مع قيام البراهين القاطعة على توحيد الله واستحقاقه العبادة ؛ إذا قيل لهم اعملوا بكتاب الله وتديّنوا بتوحيده وخصّوه بالعبادة ﴿قالُوا﴾ لا نتّبع كتاب الله ، ولا نتديّن بدينه ﴿بَلْ نَتَّبِعُ ما أَلْفَيْنا﴾ ووجدنا ﴿عَلَيْهِ آباءَنا﴾ من عبادة الأنداد ، وتحريم الطيّبات ، وارتكاب الفحشاء ؛ لأنّهم كانوا أعلم منّا.
فعارضوا الأدلّة القاطعة بالتّقليد ، فردّ الله عليهم بقوله توبيخا وتقريعا لهم : ﴿أَ وَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ﴾ ولا يدركون ﴿شَيْئاً﴾ من الدّين الحقّ ﴿وَلا يَهْتَدُونَ﴾ إلى شيء من الصّواب. مع ذلك لا يمكن جواز اتّباعهم في حكم العقل.
قيل : إنّها نزلت في مشركي العرب وكفّار قريش ، امروا باتّباع القرآن وسائر ما أنزل الله تعالى من البيّنات الباهرة ، فجنحوا للتّقليد (١) .
ونقل عن ابن عبّاس : أنّها نزلت في اليهود ، وذلك حين دعاهم رسول الله صلىاللهعليهوآله إلى الإسلام ، فقالوا : نتّبع ما وجدنا عليه آباءنا (٢) .
﴿وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِما لا يَسْمَعُ إِلاَّ دُعاءً وَنِداءً صُمٌّ بُكْمٌ
عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ (١٧١)﴾
ثمّ أنّه تعالى لتوضيح نهاية حماقة هؤلاء الكفرة لجميع النّاس حتّى لا يبقى لأحد فيها ريب ، شبّههم بالبهائم والأنعام ، بقوله : ﴿وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ وحالهم العجيبة من عبادتهم الأصنام ، وعدم فهمهم آيات التّوحيد ، وعدم استماعهم لدعوة الرّسل ﴿كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ﴾ ويصيح ﴿بِما لا يَسْمَعُ﴾ من الدّاعي ، ولا يدرك من كلامه ﴿إِلَّا دُعاءً وَنِداءً﴾ وغير صوت وصياح من غير فهم شيء من معناه.
قيل : إنّ الفرق بين الدّعاء والنّداء ، أنّ الدعاء للقريب ، والنّداء للبعيد (٣) .
عن ( المجمع ) : عن الباقر عليهالسلام : « أي مثلهم في دعائك إيّاهم إلى الإيمان ، كمثل النّاعق في دعائه المنعوق به من البهائم التي لا تفهم ، وإنّما تسمع الصّوت » (٤) .
__________________
(١) تفسير روح البيان ١ : ٢٧٤.
(٢) تفسير الرازي ٥ : ٦.
(٣) تفسير روح البيان ١ : ٢٧٤.
(٤) مجمع البيان ١ : ٤٦٣ ، تفسير الصافي ١ : ١٩٣.