بتلك الأوصاف المحمودة هم ﴿الَّذِينَ صَدَقُوا﴾ في دعوى الإيمان واتّباع الحقّ وطلب البرّ ، فإنّ العمل من أعظم شواهد صدق القبول.
﴿وَأُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ﴾ عن الكفر والرّذائل في الظّاهر والباطن ، وفي تكرير الإشارة إشارة إلى عظمة شأنهم وعلوّ منزلتهم ، وفي توسيط الضّمير دلالة على اختصاص التّقوى بهم.
في بيان جميع ما به كمال الإيمان
فالآية جامعة لبيان الكمالات الإنسانيّة ، حيث إنّها بكثرتها وتشعّبها منحصرة في ثلاثة : صحّة الاعتقاد ، وتهذيب النّفس ، وحسن المعاشرة.
وقد اشير إلى الأوّل بقوله : ﴿مَنْ آمَنَ﴾ إلى قوله : ﴿وَالنَّبِيِّينَ﴾ وإلى الثّاني بقوله : ﴿وَأَقامَ الصَّلاةَ﴾ إلى آخر الآية. وإلى الثالث بقوله : ﴿وَآتَى الْمالَ﴾ إلى قوله : ﴿وَفِي الرِّقابِ﴾ ولذا روي عن النبيّ صلىاللهعليهوآله أنّه قال : « من عمل بهذه الآية ، فقد استكمل الإيمان » (١) .
﴿يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ
بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثى بِالْأُنْثى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّباعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَداءٌ
إِلَيْهِ بِإِحْسانٍ ذلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ فَلَهُ عَذابٌ
أَلِيمٌ (١٧٨) وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ يا أُولِي الْأَلْبابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (١٧٩)﴾
ثمّ أنّه تعالى بعد ذكر وظائف العبوديّة ، شرع في جملة من الأحكام السياسيّة ، ولمّا كان أهمّها قانون تحفظ به الدّماء والنّفوس قدّمه بقوله : ﴿يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ﴾ في اللّوح المحفوظ ، أو فرض ﴿عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى﴾ والمماثلة في مجازاة جناية القتل والجرح بأن يفعل بالجاني مثل ما فعله. أمّا الفرض على الجاني فتسليم نفسه ، وأمّا على المجنى عليه أو وليّه فعدم التّجاوز عن حدّ المساواة ، وأما على سائر المؤمنين فإعانة الجاني في عدم التّعدّي عليه ، وإعانة المجنى عليه في استيفاء حقّه.
ولكن يشترط في عدم التّراجع المساواة في الحرّية والرّقّيّة والذكورة والانوثة بأن يقتل ﴿الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثى بِالْأُنْثى﴾ قيل في سبب النّزول : إنّه كان بين حيّين من أحياء العرب دماء في الجاهليّة ، وكان لأحدهما طول (٢) على الآخر فأقسموا : لنقتلنّ الحرّ منكم بالعبد ، والذّكر بالأنثى
__________________
(١) تفسير أبي السعود ١ : ١٩٥.
(٢) أي قوة وفضل.