قيل : إنّ النّاس اختلفوا في القبلة ، فصلّت اليهود إلى بيت المقدس ، والنّصارى إلى المشرق ، فهدانا الله للكعبة ، واختلفوا في الصّيام ، فهدانا الله لشهر رمضان ، واختلفوا في إبراهيم عليهالسلام فقالت اليهود : كان يهوديّا ، وقالت النّصارى : كان نصرانيّا. فقلنا : إنّه كان حنيفا مسلما. واختلفوا في عيسى عليهالسلام فاليهود فرّطوا ، والنّصارى أفرطوا ، وقلنا القول العدل (١) .
﴿وَاللهُ﴾ بلطفه وفضله ﴿يَهْدِي مَنْ يَشاءُ﴾ بحسب الاستعداد والطّينة ﴿إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ موصل إلى الحقّ القويم ، فإنّ الهداية والضّلالة لا تكون إلّا بتوفيق الله وخذلانه.
﴿أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ
الْبَأْساءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتى نَصْرُ اللهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللهِ
قَرِيبٌ (٢١٤)﴾
ثمّ أنّه تعالى لمّا بيّن أنّ المؤمنين هم المهتدون إلى الحقّ وإلى طريق مستقيم - ومن الواضح أنّ العقائد الحقّة لا بدّ أن تكون موثرا في القلب بحيث تبعث الجوارح على الأعمال الشّاقّة في جنب الله ، فالفتور في الجوارح عن القيام بالوظائف الإلهيّة لا يكون إلا لضعف اليقين وعدم رسوخ الحقّ في القلب - بيّن أنّ امتحان المهتدين إلى الحقّ الموجب لدخول الجنّة لا يكون إلا بالصّبر على الطّاعة كما صبر السّابقون من أهل الايمان ، بقوله : ﴿أَمْ حَسِبْتُمْ﴾
قيل : إنّ التّقدير : فصبر الذين هدوا إلى الحق على الشّدائد ، فتسلكون سبيلهم ﴿أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ﴾ من دون تحمّل المشاقّ ﴿وَلَمَّا يَأْتِكُمْ﴾ ولم ينزل عليكم بعد ﴿مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا﴾ ومضوا ﴿مِنْ قَبْلِكُمْ﴾ من المؤمنين ولم تتحملوا مثل ما تحمّلوه من البلايا التي كانت في الشّدّة مثلا.
ثمّ كأنّه قيل : كيف كان مثلهم ؟ فبيّنه تعالى بقوله : ﴿مَسَّتْهُمُ الْبَأْساءُ﴾ من الخوف والفاقة ﴿وَالضَّرَّاءُ﴾ من القتل والأمراض ، والخروج عن الأهل والمال ﴿وَزُلْزِلُوا﴾ وازعجوا إزعاجا شديدا لمّا دهمتهم الأهوال والأفزاع ﴿حَتَّى﴾ بلغت الشدّة إلى أن ﴿يَقُولَ الرَّسُولُ﴾ مع أنّه أصبر النّاس وأعلمهم بتأييد الله ونصره ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ﴾ واقتدوا به : ﴿مَتى نَصْرُ اللهِ﴾ وأيّ وقت يكون عونه ؟ قد أبطأ إنجاز وعده وطال زمان الشّدّة والعناء بنا ، وعجز الصّبر عن تحمّل البلاء. فإذا بلغت
__________________
(١) تفسير الرازي ٦ : ١٦.