ثمّ بيّن الله تعالى ما يعتبر في صحّة الإنفاق بقوله : ﴿الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ﴾ من جهاد أو غيره من وجوه الخير ﴿ثُمَ﴾ بعد التّوفيق بهذا العمل الصّالح النّافع ﴿لا يُتْبِعُونَ﴾ ولا يعقبون ﴿ما أَنْفَقُوا مَنًّا﴾ وإظهار حقّ على المنفق عليه ، وحسن اصطناع به ﴿وَلا أَذىً﴾ وإساءة بكلام أو فعل فيسوؤه ، كأن يقول للفقير : تأذّينا منك ، أو : لا نستريح من شرّك وزحمتك ، أو يتطاول عليه ، وأمثال ذلك. وتقديم ذكر المنّ لكونه أكثر وقوعا من الأذى ، وذكر كلمة ( ثمّ ) لإظهار مباينة الإنفاق لهما ، وكمال البعد بينه وبينهما.
عن الصادق عليهالسلام عن النبيّ صلىاللهعليهوآله : « من أسدى إلى مؤمن معروفا ، ثمّ آذاه بالكلام ، أو منّ عليه ، فقد أبطل الله صدقته » (١) .
فتحصّل من الآية المباركة والرواية الشّريفة أنّ الصّدقة ، بل كلّ معروف ، كزرع المؤمن ، والمنّ والأذى آفتاه ، فعلى المؤمنين أن يحفظوا زرعهم من الآفة ، فإذا حفظوه منها كان ﴿لَهُمْ أَجْرُهُمْ﴾ وثوابهم الموعود ، في الآية السّابقة ، المذخور ﴿عِنْدَ رَبِّهِمْ﴾ ومليكهم اللّطيف بهم ﴿وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ﴾ من نقص الأجر ، والابتلاء بالعذاب ﴿وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ على ما خلّفوه من الدّنيا ، وما فاتهم من مطلوب.
روى العامّة أنّها نزلت في عثمان حين جهّز جيش العسرة في غزوة تبوك ، بألف بعير بأقتابها وأحلاسها ، وألف دينار (٢) . وفي عبد الرّحمن بن عوف حيث تصدّق بأربعة آلاف درهم على رواية ، أو دينار على اخرى ، أو بنصف ماله على ثالثة (٣) .
وعلى هذا يحتمل أن يكون في ذكر المنّ والأذى التّعريض عليهما ، والإشارة إلى منّهما على النبيّ صلىاللهعليهوآله والمؤمنين بصدقتهما ، كما يستفاد ممّا روي عن النبيّ صلىاللهعليهوآله أنّه قال : « ما من النّاس أحد أمنّ علينا في صحبته وذات يديه من ابن أبي قحافة » (٤) . أنّه منّ بإسلامه وصحبته على النبيّ صلىاللهعليهوآله وكان من مصاديق قوله تعالى : ﴿يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا﴾(٥) .
في ردّ ما روته العامّة في قضية أبي بكر
وقد أوّل بعض العامّة المنّ في الحديث بكثرة إنعامه بماله. وفيه : أنّه ما نقل من أحد
__________________
(١) تفسير القمي ١ : ٩١ ، تفسير الصافي ١ : ٢٧٢.
(٢) الأحلاس جمع حلس : وهو كلّ ما على ظهر الدابة تحت الرّحل والقتب والسّرج.
(٣) تفسير الرازي ٧ : ٤٥ ، تفسير أبي السعود ١ : ٢٥٨ ، تفسير روح البيان ١ : ٤١٩.
(٤) تفسير الرازي ٧ : ٤٦.
(٥) الحجرات : ٤٩ / ١٧.