بثمار تلك الجنّة ومنافعها ، بحيث لو لم تكن لوقعوا جميعا في المخمصة والهلاك ﴿فَأَصابَها إِعْصارٌ﴾ وريح عاصفة شديدة تستدير في الأرض ، ثمّ تنعكس منها ساطعة إلى السّماء كهيئة العمود. قيل : يسمّيها العرب الزّوبعة (١) ، والعجم ( گردباد ) .
ومن الواضح أنّ هذه الرّيح بنفسها قالعة للأشجار ومعدمة للجنّة ، ومع ذلك كانت ﴿فِيهِ نارٌ﴾ شديدة محرقة ﴿فَاحْتَرَقَتْ﴾ بها الجنّة وأشجارها ، وذهبت ثمارها ، وخرّبت ومحت آثارها.
فانظر كيف يبقى صاحب هذه الجنّة متحيّرا ، حيث إنّه لا يجد ما يعود على نفسه وعياله ، ولا يقوى أن يغرس مثلها ولا يعينه أحد من ذرّيّته ، إذن لكونهم في غاية العجز والضّعف ، فليس لهم إلّا الهلاك.
كذلك من ينفق ماله ، أو يفعل الأعمال الحسنة ، ثمّ يحبط أجرها بالمنّ والأذى والرّياء وغيرها من الآفات ، لا ينتفع بها يوم القيامة مع شدّة الحاجة إليها ، فكما لا يودّ أحد أن يكون له شأن تلك الجنّة ، كذلك لا يودّ أن يحبط أجر أعماله وصدقاته ، لكون حسرته وأسفه أشدّ من صاحب الجنّة.
﴿كَذلِكَ﴾ التّبيين الواضح لسوء عاقبة المنّ والأذى والرّياء في الصّدقات والعبادات ﴿يُبَيِّنُ اللهُ﴾ ويوضّح ﴿لَكُمُ الْآياتِ﴾ الدّالّة على ولايته للمؤمنين ، والدّلائل المثبتة للشّرع المتين ، والعبارات المبيّنة لحكم أحكام الدّين ﴿لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ﴾ فيها ، ولكي تتدبروها ، وتعتبروا بها ، وتلتزموا باتّباعها.
﴿يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّباتِ ما كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنا لَكُمْ مِنَ
الْأَرْضِ وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلاَّ أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ
وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (٢٦٧)﴾
ثمّ أنّه تعالى بعد ما بيّن شرائط صحّة الإنفاق ، من حيث نيّة المنفق وأخلاقه وسلوكه مع الفقير ، بيّن شرط صحّته أو كماله ، من حيث نفس المال ، بقوله : ﴿يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا﴾ وتصدّقوا في سبيل الله ﴿مِنْ طَيِّباتِ ما كَسَبْتُمْ﴾ بالتّجارة من الأموال ، ومن جياد ما استفدتم من الارباح.
روي أنّها نزلت في قوم لهم مال من ربا الجاهليّة ، وكانوا يتصدّقون منه ، فنهاهم الله عن ذلك وأمرهم بالصّدقة بالحلال (٢) .
وعن الصادق عليهالسلام : « كان القوم قد كسبوا مكاسب [ سوء ] في الجاهليّة ، فلمّا أسلموا أرادوا أن
__________________
(١) تفسير الرازي ٧ : ٦٠.
(٢) مجمع البيان ٢ : ٦٥٥.