كثيرا ؛ لأنّ الدّنيا محدودة من جميع الجهات ، والعلم لا نهاية لمراتبه ومدّة بقائه ، فالعلم والحكمة خير من الدّنيا وما فيها.
﴿وَما يَذَّكَّرُ﴾ لتلك الفضيلة ، ولا يتنبّه لهذه المزيّة للحكمة أحد ﴿إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ﴾ وذوو العقول السّليمة ، الخالصة عن شوائب الأوهام ، الغالبة على الشّهوات. وهم الحكماء الرّبانيّون والعلماء بالله ، لوضوح أنّ من لا غلبة لعقله على هواه ليس له ذلك التّنبّه والاتّعاظ.
﴿وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللهَ يَعْلَمُهُ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ
أَنْصارٍ (٢٧٠)﴾
ثمّ أنّه تعالى - لشدّة الاهتمام بالانفاق الذي هو أحسن الأعمال وأنفعها - أكّد أمره به بالوعد بالثّواب العظيم ، والتّحذير عن تركه بالعقاب الشّديد ، بقوله : ﴿وَما أَنْفَقْتُمْ﴾ في سبيل الله ﴿مِنْ نَفَقَةٍ﴾ وبأيّ شيء تصدّقتم من قليل أو كثير ، في حقّ أو باطل ، في سرّ أو علانية ﴿أَوْ نَذَرْتُمْ﴾ والتزمتم على أنفسكم ﴿مِنْ نَذْرٍ﴾ والتزام معلّق أو مطلق ، في طاعة كنذر أمير المؤمنين وفاطمة عليهماالسلام صيام ثلاثة أيّام لشفاء ولدهما ، أو معصية كنذر نسوة من قبيلة بني أود أن تنحر كلّ واحدة منهن عشر قلائص (١) إن قتل الحسين عليهالسلام ، على ما نقله ابن أبي الحديد (٢)﴿فَإِنَّ اللهَ يَعْلَمُهُ﴾ فيثيب على مستحسنها ، ويعاقب على قبيحها. وفيه - مع كمال اختصاره - وعد عظيم ووعيد شديد.
ثمّ أكّد الوعيد بقوله : ﴿وَما لِلظَّالِمِينَ﴾ على أنفسهم بترك الإنفاق الواجب ، أو إبطاله بالرّياء والسّمعة أو المنّ والأذى ، أو بالصّرف في تشييد الكفر وتضعيف الحقّ ، أو بنذره في المعصية ﴿مِنْ أَنْصارٍ﴾ وأعوان مدافعين عنهم بأس الله وعذابه ، فلا شفاعة ولا مدافعة. وإيراد ( الأنصار ) بصيغة الجمع لمقابلة الجمع وهو ( الظالمين ) وعطف النّذر على الإنفاق ، لغلبة استلزامه إيّاه.
﴿إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوها وَتُؤْتُوهَا الْفُقَراءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ
وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئاتِكُمْ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (٢٧١)﴾
__________________
(١) القلائص : جمع قلوص ، والقلوص من الإبل : الفتية من حين تركب إلى التاسعة من عمرها.
(٢) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ٤ : ٦١.