و﴿الْقَيُّومُ﴾ الذي بيده تدبير كلّ شيء ، فإذا حكم العقل بأنّ خالق العالم لا بدّ من أن يكون واجدا لهذين الوصفين ، حكم بفساد القول بكون عيسى إلها ؛ لضرورة حياته بعد موته ، وموته بعد حياته ، وعجزه عن الاستقلال بتدبير نفسه ، فضلا عن تدبير السّماوات والأرض وما فيهما.
وفي الرّواية السّابقة لمّا قالوا : فمن أبوه ؟ فقال صلىاللهعليهوآله : « أ لستم تعلمون أنّه لا يكون ولد إلّا ويشبه أباه ؟ ! » فقالوا : بلى ، قال صلىاللهعليهوآله : « أ لستم تعلمون أن ربّنا حيّ لا يموت ، وأنّ عيسى يأتي عليه الفناء ؟ » قالوا : بلى ، قال صلىاللهعليهوآله : « أ لستم تعلمون أنّ ربّنا قيّوم على كلّ شيء يحفظه ويرزقه ؟ » قالوا : بلى ، قال صلىاللهعليهوآله : « فهل يملك عيسى من ذلك شيئا ؟ » قالوا : لا (١) .
وروي أنّ هذين الاسمين اسم الله الأعظم (٢) .
﴿نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ (٣) مِنْ
قَبْلُ هُدىً لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقانَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ
وَاللهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ (٤)﴾
ثمّ استدلّ سبحانه على انحصار استحقاق العبادة فيه ، بنعمه العظام التي أهمّها إنزال الكتب السّماوية لهداية البشر إلى العقائد الحقّة ، والمحسّنات العقليّة ، والمصالح الدّنيويّة ، بقوله مخبرا عن ذاته المقدّسة بأنّه ﴿نَزَّلَ﴾ نجوما وتدريجا ﴿عَلَيْكَ﴾ يا محمّد ؛ لهداية الخلق إلى يوم القيامة ﴿الْكِتابَ﴾ المجيد والقرآن المجيد.
قيل : عبّر سبحانه عنه باسم الجنس للإشعار بتفوّقه في الكمالات الجنسيّة كأنّه الحقيق بهذا الاسم دون غيره من الكتب.
ثمّ استدلّ على كونه منزلا من الله بكونه ملتبسا ﴿بِالْحَقِ﴾ والعدل ، أو بالصّدق في أخباره ، التي من جملتها خبر التّوحيد ، وسائر المعارف ، وما فيه من الوعد والوعيد ، أو مقرونا بدلائل الصّدق ؛ من إعجاز البيان ، والإخبار بالمغيّبات ، والاشتمال على العلوم غير المتناهية ، مع كون من أتى به امّيّا ، حال كونه ﴿مُصَدِّقاً لِما﴾ نزل ﴿بَيْنَ يَدَيْهِ﴾ من الكتب السّماويّة ؛ حيث إنّه أخبر جميعها ببعثة نبيّ من ولد إسماعيل ، له نعوت وصفات خاصّة ، وكتاب ناسخ لسائر الكتب.
__________________
(١ و٢) . تفسير أبي السعود ١ : ٣.