السّمّ ، فكيف يلتذّ المؤمن بلذائذ الدّنيا ، ويشتاق إليها ، وهو يعلم أنّه مفارقها ، وتبقى عليه تبعاتها ؟ التي أقلّها أن يقال له في الآخرة : ﴿أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِها﴾(١) .
﴿وَاللهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ﴾ والمرجع من الجنّة ونعمها الباقية.
﴿قُلْ أَ أُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا
الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَأَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوانٌ مِنَ اللهِ وَاللهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ (١٥)﴾
ثمّ بعد الإشارة الإجماليّة الى فضيلة نعم الآخرة على نعم الدّنيا ، ذكر سبحانه اصول نعم الآخرة تفصيلا بقوله : ﴿قُلْ﴾ يا محمّد ، لامّتك : ﴿أَ أُنَبِّئُكُمْ﴾ وهل اخبركم ﴿بِخَيْرٍ﴾ وأحسن ﴿مِنْ ذلِكُمْ﴾ المشتهيات الدّنيويّة ؟
ثمّ لمّا كان السّؤال مقتضيا للجواب ، فكأنّه قيل في الجواب : نعم أنبئنا وأخبرنا ، فقال : ﴿لِلَّذِينَ اتَّقَوْا﴾ الله ، وخافوا عقابه في مخالفة أحكامه وعصيان تكاليفه ، وأعرضوا من الدّنيا ، وأقبلوا إلى الآخرة ﴿عِنْدَ رَبِّهِمْ﴾ اللّطيف بهم تفضّلا منه عليهم ﴿جَنَّاتٌ﴾ متعدّده لكلّ واحد منهم. وقيل : إنّ التعدّد بلحاظ تعدّد الأشخاص.
ثمّ وصف نضارتها بأن لها أشجارا ﴿تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ﴾ الكثيرة ، أو الأربعة المعهودة ، حال كونهم ﴿خالِدِينَ﴾ ومقيمين ﴿فِيها﴾ أبدا ، غير خائفين من الخروج منها ، وزوال نعمها.
عن النبيّ صلىاللهعليهوآله : « شبر من الجنّة خير من الدّنيا وما فيها » (٢) .
ثمّ لمّا كان من تمام النّعمة الزّوجة الصّالحة الموافقة الأنيسة ، بشّر الله المؤمنين بها بقوله : ﴿وَ﴾ لهم ﴿أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ﴾ منزّهة ، طهّرهنّ الله من دنس الحيض والنّفاس والكثافات (٣) الجسمانيّة ، ونزّههنّ من العيوب والأخلاق السّيّئة ؛ كالحسد والغضب والطمع والنّظر إلى غير أزواجهنّ.
ثمّ بشّرهم بعد النّعم الجسمانيّة بأعلى النّعم الرّوحانيّة بقوله : ﴿وَرِضْوانٌ﴾ عظيم لا يوصف ببيان ، كائن ﴿مِنَ اللهِ﴾ من تجلّي أنوار جلاله تعالى ، الذي هو أقصى الآمال ، وأعلى الحظوظ ، ومنتهى الكرامة للمؤمن ﴿وَاللهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ﴾ المتّقين ، فيثيبهم على حسب درجاتهم ، ويجازيهم على قدر زهدهم في الدّنيا ، وإقبالهم إلى الله ، وقيامهم بوظائف العبوديّة.
__________________
(١) الأحقاف : ٤٦ / ٢٠.
(٢) تفسير روح البيان ٢ : ١٠.
(٣) يريد بها الأوساخ.