ثمّ كأنّه قيل : ماذا يصنعون من العجائب حين ينظر إليهم ؟ فأجاب سبحانه : ﴿يُدْعَوْنَ إِلى كِتابِ اللهِ﴾ الذي اوتوا نصيبا منه ، وآمنوا به ﴿لِيَحْكُمَ﴾ ذلك الكتاب بأوضح بيان ( فيما ) وقع الاختلاف فيه ﴿بَيْنَهُمْ﴾ وبين النبيّ والمسلمين.
﴿ثُمَ﴾ يقع منهم ما هو في غاية المباينة من إيمانهم بالكتاب ، وهو أنّه ﴿يَتَوَلَّى﴾ عن تلك الدّعوة ولا يجيبها ﴿فَرِيقٌ مِنْهُمْ﴾ بعد علمهم بوجوب الرّجوع إليه ، والالتزام بما فيه ﴿وَهُمْ﴾ في هذا الحال ﴿مُعْرِضُونَ﴾ عن ذلك الكتاب وأحكامه بقلوبهم.
وقيل : إنّ المراد : أنّ ديدنهم الإعراض عن الحقّ ، والإصرار على الباطل.
روي أنّ رسول الله صلىاللهعليهوآله دخل مدارس اليهود ، فدعاهم إلى الإيمان ، فقال له رئيسهم نعيم بن عمرو : وعلى أيّ دين أنت ؟ قال صلىاللهعليهوآله : « على ملّة إبراهيم » قال : إنّ إبراهيم كان يهوديّا ، قال صلىاللهعليهوآله : « إنّ بيننا وبينكم التّوراة فهاتوها » ، فأبوا ، فنزلت (١) [ الآية ] .
وعن الكلبي : أنّها نزلت في الرّجم : فجر رجل وامرأة من أهل خيبر ، وكانا في شرف منهم ، وكان في كتابهم الرّجم ، فأتوا رسول الله صلىاللهعليهوآله رجاء رخصة عنده ، فحكم عليهم بالرّجم ، فقالوا : جرت علينا ، ليس عليهما الرّجم ، فقال صلىاللهعليهوآله : « بيني وبينكم التّوراة » قالوا : قد أنصفتنا ، قال : « فمن أعلمكم بالتوراة ؟ » قالوا : ابن صوريا ، فأرسلوا إليه ، فدعا النبيّ صلىاللهعليهوآله بشيء من التّوراة فيه الرّجم دلّه على ذلك ابن سلّام ، فقال له : « اقرأ » فلمّا أتى على آية الرّجم وضع كفّه عليها ، وقام ابن سلّام فرفع إصبعه عنها ، ثمّ قرأ على رسول الله صلىاللهعليهوآله وعلى اليهود : إنّ المحصن والمحصنة إذا زنيا ، وقامت عليهما البيّنة رجما ، وإن كانت المرأة حبلى تربص حتى تضع ما في بطنها. فأمر رسول الله صلىاللهعليهوآله باليهوديين فرجما ، فغضب اليهود لذلك ، فرجعوا كفّارا ، فأنزل الله هذه الآية (٢) .
﴿ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ ما كانُوا
يَفْتَرُونَ (٢٤)﴾
ثمّ بيّن الله سبحانه علّة تولّيهم عن الكتاب ، وجرأتهم على الله بقوله : ﴿ذلِكَ﴾ التّولّي عن إجابة الدّعوة ، والإعراض بالقلب عن الكتاب ، كان ﴿بِأَنَّهُمْ قالُوا﴾ اختلافا من عند أنفسهم ، وافتراء على الله
__________________
(١) تفسير روح البيان ٢ : ١٥.
(٢) تفسير روح البيان ٢ : ١٥.