ثمّ كأنّه قيل : فما قالت مريم بعد تلك البشارة ؟ فقال سبحانه : ﴿قالَتْ﴾ مريم - استبعادا لوقوع هذا الأمر الخارق للعادة ، واستعظاما لقدرة الله ، أو استفسارا من أنّه [ قد ] يكون الولد بسبب التّزوّج ، أو بغيره - : ﴿رَبِّ أَنَّى يَكُونُ﴾ ومن أين يوجد ﴿لِي وَلَدٌ﴾ إذ هو متوقّف على مباشرة الفحل ﴿وَ﴾ أنا إلى الآن ﴿لَمْ يَمْسَسْنِي﴾ ولم يقربني ﴿بَشَرٌ﴾ وهذه حالة منافية للولادة على حسب العادة ﴿قالَ﴾ الله تعالى أو جبرئيل عليهالسلام : ﴿كَذلِكِ﴾ الخلق العجيب الخارق للعادة ﴿اللهُ يَخْلُقُ ما يَشاءُ﴾ أن يخلقه.
ولمّا كان لفظ الخلق مشعرا بالاختراع - ولذا كان ذكره أنسب بولادة العذراء من غير أب ، من ولادة عجوز عاقر من شيخ فان هرم - عقّبه ببيان كيفيّة الاختراع بقوله : و﴿إِذا قَضى﴾ الله وحتم ﴿أَمْراً﴾ من الامور بالإرادة التّكوينيّة ، وتمّ صلاح وجود شيء من الأشياء ﴿فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ﴾ وهو كناية عن تعلّق الإرادة التّكوينيّة بوجوده ﴿فَيَكُونُ﴾ ويوجد من غير توقّف على مادّة ومدّة ، ومن غير حاجة إلى مؤنة وعدّة.
في كيفية احتبال مريم ومكالمة يوسف معها
عن ابن عبّاس رحمهالله : أنّ مريم كانت في غرفة ، قد ضربت دونها سترا ، إذا هي برجل عليه ثياب بيض ، وهو جبرئيل عليهالسلام تمثّل لها بشرا سويّا ، أي تامّ الخلق ، فلمّا رأته قالت : ﴿أَعُوذُ بِالرَّحْمنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا﴾(١) ثمّ نفخ في جيب درعها ، حتّى وصلت النّفخة إلى الرّحم فاحتبلت (٢) .
وعن وهب : أنّه كان معها ذو قرابة يقال له يوسف النّجار ، وكان يوسف هذا يستعظم ذلك ، فإذا أراد أن يتّهمها ذكر صلاحها ، وإذا أراد أن يبرّئها رأى ما ظهر عليها ، فكان أوّل ما كلّمها أن قال لها : قد دخل في صدري شيء أردت كتمانه ، فغلبني ذلك ، فرأيت الكلام أشفى لصدري. قالت : قل. قال : فحدّثيني هل ينبت الزّرع من غير بذر ؟ قالت : نعم. قال : فهل ينبت شجر من غير أصل ؟ قالت : نعم. قال : فهل يكون ولد من غير ذكر ؟ قالت : نعم ، ألم تعلم أنّ الله أنبت الزّرع يوم خلقه من غير بذر ، والبذر يومئذ إنّما صار من الزّرع الذي أنبت الله من غير بذر ، ألم تعلم أنّ الله خلق آدم وحوّاء من غير انثى ولا ذكر. فلمّا قالت له ذلك ، وقع في نفسه أنّ الذي بها شيء أكرمها الله به (٣) .
﴿وَيُعَلِّمُهُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ (٤٨) وَرَسُولاً إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ
أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ
__________________
(١) مريم : ١٩ / ١٨.
(٢) تفسير روح البيان ٢ : ٣٦ ، وفيه : الرّحم فاشتملت.
(٣) تفسير روح البيان ٢ : ٣٦.