إن قيل : إنّه ثبت بالتّواتر أنّ المصلوب بقي حيّا زمانا طويلا ، فلو لم يكن ذلك عيسى بل كان غيره لأظهر الجزع ولقال : إنّي لست بعيسى ، بل إنّما أنا غيره ، ولبالغ في تعريف ذلك ، ولو ذكر ذلك لاشتهر عند الخلق ، فلمّا لم يكن من ذلك أثر ، ولم يوجد في دفتر ، علمنا أنّه ليس الأمر كما ذكر.
قلنا : أمّا على تقدير كون المصلوب مؤمنا قد قبل هذا الأمر لنفسه ، فهو لم يكن يظهر الأمر البتّة ، وأمّا على تقدير كونه عدوّا ، أو مؤمنا منافقا ، فقد نقل أنّه أظهر ذلك ، وقال : إنّي لست بعيسى ، فلم يقبلوا منه ، وكان عاجزا عن إثبات دعواه.
ثمّ أنّه تعالى بعد ما بشّره بالبشارتين الرّاجعتين إلى نفسه المقدّسة ، بشّره بكرامة أتباعه المؤمنين به حقّ الإيمان بقوله : ﴿وَ﴾ إنّي ﴿جاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ﴾ في العقائد والأعمال ، وآمنوا بك حقّ الإيمان ، ولم يغلوا فيك كمحمّد صلىاللهعليهوآله وأتباعه المؤمنين به ﴿فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ بك من اليهود المكذّبين ، والنّصارى الغالين فيك ، بالغلبة عليهم بالسّيف ، والعزّة والحجّة ، من الآن ﴿إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ﴾ وجاعل الذين خالفوك تحت سلطان المؤمنين ، أذلّاء مقهورين ﴿ثُمَّ إِلَيَ﴾ في يوم القيامة ﴿مَرْجِعُكُمْ﴾ ومرجع مخالفيكم بالبعث والنّشور ﴿فَأَحْكُمُ﴾ إثر رجوعكم إليّ في ذلك اليوم ﴿بَيْنَكُمْ فِيما كُنْتُمْ﴾ في الدّنيا ﴿فِيهِ تَخْتَلِفُونَ﴾ وتتنازعون من الكفر والإيمان ، والعقائد والأعمال.
﴿فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَما لَهُمْ مِنْ
ناصِرِينَ (٥٦)﴾
ثمّ بيّن سبحانه كيفيّة حكومته بينهم مفصّلا بقوله : ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ بالله ، وجحدوا رسالتك ودينك ﴿فَأُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً فِي الدُّنْيا﴾ بالقتل ، والسّبي ، والذّلّة ، والمسكنة ، وأخذ الجزية ، والأمراض والمصائب التي هي العقوبات الزائدة في حقّ الكفّار على عقوبات الآخرة ، ومن ألطافه تعالى في حقّ المؤمنين ، لكونه ابتلاء لهم ، ورفع درجة. وفي ﴿الْآخِرَةِ﴾ بالنّار ، والسّلاسل والأغلال ، وسائر ما اعدّ للكفّار ﴿وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ﴾ وحامين ينجونهم من أحد العذابين فضلا عن كليهما.