تشابه ، ولم يكن في كتاب التّكوين متشابه ، بل كان كلّها محكمات ، لم يحصل الامتحان والاختيار ، وكان إيمان المؤمن شبه الإلجاء والإجبار ، وكذلك لو لم يكن في القرآن متشابهات لم يحصل للمقرّين به الفتنة والامتحان ﴿أَ حَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ﴾(١) .
الطّرفة الثامنة عشرة
في أنّ الحروف المقطّعة التي تكون في أوائل السّور
من أبين مصاديق المتشابه ، وبيان المراد منها
من أبين مصاديق المتشابه في القرآن ، الحروف المقطّعات التي تكون في أوائل السور ، ولا شبهة أنّها رموز وأسرار بين الله تعالى والرّاسخين في العلم ، لا يطّلع عليها غيرهم.
عن الشّعبيّ ، أنّه سئل عن فواتح السور ، فقال : إنّ لكلّ كتاب سرّا ، وإنّ سرّ هذا القرآن فواتح السور (٢) .
واختلفت الأخبار في بيان المراد منها ، وأكثرها تدلّ على أنّ كلّ حرف منها رمز من اسم من الأسماء الحسنى ، كما عن السّدّي ، قال : فواتح السور أسماء من أسماء الربّ جلّ جلاله ، فرّقت في القرآن (٣) .
وقال الزّجّاج : إنّ العرب كانوا ينطقون بالحرف الواحد ، كناية عن الكلمة التي هو منها (٤) .
وقال القاضي أبو بكر ابن العربي في الحروف المقطّعات : إنّه لو لا أنّ العرب كانوا يعرفون أنّ لها مدلولا متداولا بينهم ، لكانوا أوّل من أنكر ذلك على النبي صلىاللهعليهوآله بل تلا عليهم حم فصّلت وص وغيرهما ، فلم ينكروا عليه ذلك ، بل صرّحوا بالتسليم له في البلاغة والفصاحة مع تشوّقهم إلى عثرته ، وحرصهم على زلّته ، فدلّ على أنّه كان أمرا معروفا بينهم لا إنكار لهم فيه ، انتهى (٥) .
أقول : كان يكفي تداول التّكنية والإرماز بالحروف المقطّعة في عدم تمكنهم على الإنكار والاعتراض ، ولا يلزم معرفتهم بخصوص المعنى تفصيلا ، ولعلّ مراده المعرفة الاجماليّة. وقد تظافرت روايات الخاصّة والعامّة على أنّها رموز وكنايات عن أسماء الله تعالى وتعيينها وتبيينها.
__________________
(١) العنكبوت : ٢٩ / ٢.
(٢) الإتقان في علوم القرآن ٣ : ٢٤.
(٣) الإتقان في علوم القرآن ٣ : ٢٦.
(٤) الإتقان في علوم القرآن ٣ : ٢٧.
(٥) الإتقان في علوم القرآن ٣ : ٣٠.