قلنا : اتّفق المفسّرون على أنّ المراد من الآيات خصوص اليهود ، ويشهد لذلك ما روي في شأن نزولها : من أنّ مالك بن الصّيف ووهب بن يهوذا اليهوديّين ، مرّا بنفر من أصحاب النبيّ صلىاللهعليهوآله وفيهم ابن مسعود ، وأبيّ بن كعب ، ومعاذ بن جبل ، وسالم مولى حذيفة ، فقالا لهم : نحن أفضل منكم وديننا خير ممّا تدعوننا إليه. فنزلت [ الآية ](١) .
ثمّ بيّن الله سبحانه سوء حالهم في الآخرة بقوله : ﴿وَباؤُ﴾ ورجعوا في الآخرة ، أو المراد تمكّنوا واستقرّوا ﴿بِغَضَبٍ﴾ وعذاب عظيم كائن ﴿مِنَ اللهِ﴾ العظيم. وفيه أشّد التّهديد.
ثمّ لمّا كان همّ اليهود في الرّئاسات الباطلة والحطام الدنيوي ، زاد سبحانه في تهديدهم بالأخبار بحرمانهم منها في الدّنيا بقوله : ﴿وَضُرِبَتْ﴾ واشتملت ﴿عَلَيْهِمُ﴾ اشتمال القبّة على من فيها ﴿الْمَسْكَنَةُ﴾ والفقر والمقهورية ، في أيدي المسلمين وسائر الملل ، فلا يكون لهم ملك وسلطان ورئاسة وثروة ظاهرة ، حيث إنّهم وإن كثرت ثروتهم يظهرون الفقر بين النّاس.
وقيل : إنّ المراد بالمسكنة هي الجزية (٢) .
ثمّ أشار سبحانه إلى علّة هذه العقوبات بقوله : ﴿ذلِكَ﴾ المذكور من الشّدائد الدّنيويّة والاخرويّة معلّل ﴿بِأَنَّهُمْ كانُوا﴾ من زمان بعثة محمّد صلىاللهعليهوآله على الاستمرار ﴿يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ﴾ النّاطقة بنبوّته ، وينكرون علائمه المذكورة في التّوراة ، ويحرّفون عباراتها المبشّرة ببعثه ، الدّالّة على أوصافه وعلائمه ، ويجحدون إعجاز القرآن وسائر معجزاته ﴿وَ﴾ بأنّهم كانوا ﴿يَقْتُلُونَ الْأَنْبِياءَ﴾ من بني إسرائيل ، كزكريّا ، ويحيى وغيرهما ، مع علمهم بأنّ قتلهم ﴿بِغَيْرِ حَقٍ﴾ يوجبه أو يجوّزه.
قيل : إنّ إسناد القتل إلى الّذين كانوا في زمان النبيّ صلىاللهعليهوآله لرضاهم بفعل أسلافهم ، وتصويبهم له(٣).
عن ( الكافي ) والعيّاشي : عن الصادق عليهالسلام : « والله ما قتلوهم بأيديهم ، ولا ضربوهم بأسيافهم ، ولكنّهم سمعوا أحاديثهم فأضاعوها ، فاخذوا عليها فقتّلوا » (٤) .
أقول : الظّاهر أنّ المراد من الرّواية بيان وجه نسبة قتلهم إلى مؤمني بني إسرائيل ، مع وضوح عدم مباشرتهم له ، وإنّما كان المباشر منهم.
ثمّ بيّن الله علّة بلوغهم إلى هذه الدّرجة من الشّقاوة بقوله : ﴿ذلِكَ﴾ المذكور من الكفر والطّغيان معلّل ﴿بِما عَصَوْا﴾ الله وخالفوا أوامره ونواهيه ، ومسبّب عن الإصرار على صغائر الذّنوب وكبائرها ،
__________________
(١) تفسير أبي السعود ٢ : ٧١.
(٢) تفسير الرازي ٨ : ١٨٥.
(٣) تفسير روح البيان ٢ : ٧٩.
(٤) الكافي ٢ : ٢٧٥ / ٦ ، تفسير العياشي ١ : ٣٣٦ / ٧٧٠ ، تفسير الصافي ١ : ٣٤٣.