النّهي عن المنكر ، ﴿وَ﴾ لأجل أنّ العصاة ﴿لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ﴾ العصيان بوعظنا لاحتمال اتّعاظهم عندنا ﴿فَلَمَّا نَسُوا﴾ وتركوا اولئك الطّغاة ﴿ما ذُكِّرُوا﴾ ووعظوا ﴿بِهِ﴾ ولم يلتفتوا إلى وعظ الواعظين ونهي الناهين ﴿أَنْجَيْنَا﴾ وخلّصنا من العذاب الصّلحاء ﴿الَّذِينَ﴾ كانوا ﴿يَنْهَوْنَ﴾ العصاة والمسيئين ﴿عَنِ السُّوءِ﴾ والعصيان ﴿وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا﴾ أنفسهم وطغوا على ربّهم ﴿بِعَذابٍ بَئِيسٍ﴾ وشديد ﴿بِما كانُوا يَفْسُقُونَ﴾ ليرتدعوا عن العصيان ﴿فَلَمَّا عَتَوْا﴾ وتأبّوا استكبارا ﴿عَنْ﴾ ترك ﴿ما نُهُوا عَنْهُ﴾ من العصيان ، أردنا إرادة تكوينيّة مسخهم كأنّا ﴿قُلْنا لَهُمْ كُونُوا﴾ أيّها العتاة ﴿قِرَدَةً﴾ وكونوا ، أو حال كونهم ﴿خاسِئِينَ﴾ ذليلين عند الله وعند النّاس ، أو مطرودين من رحمة الله ، أو من بين النّاس. فكانوا كذلك من غير ريث.
في قصة أصحاب السبت
روي أنّ اليهود امروا باليوم الذي امرنا به ، وهو يوم الجمعة ، فتركوه واختاروا السّبت ، وهو المعنيّ بقوله تعالى : ﴿إِنَّما جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ﴾(١) وابتلوا به ، وحرّم عليهم الصّيد وامروا بتعظيمه ، فكانت الحيتان تأتيهم يوم السّبت كأنّها المخاض (٢) والكباش البيض السّمان تنتطح ، لا يرى وجه الماء لكثرتها ، ولا تأتيهم في سائر الأيّام ، وكانوا على ذلك برهة من الدّهر ، ثمّ جاءهم إبليس فقال لهم : إنّما نهيتم عن أخذها يوم السّبت ، فاتّخذوا حياضا سهلة الورود صعبة الصّدور ففعلوا ، فجعلوا يسوقون الحيتان إليها يوم السّبت فلا تقدر على الخروج ، ويأخذونها يوم الأحد.
وأخذ رجل منهم حوتا وربط في ذنبه خيطا إلى خشبة في الساحل ثمّ شواه يوم الأحد ، فوجد جاره ريح السّمك ، فتطلّع على تنّوره ، فقال له : إنّي أرى الله سيعذّبك ، فلّما [لم] يره عذاب أخذ في السّبت القابل حوتين.
فلمّا رأوا أنّ العذاب لا يعاجلهم استمرّوا على ذلك ، فصادوا وأكلوا وملّحوا وباعوا ، وكانوا نحوا من سبعين ألفا ، فكان أهل القرية أثلاثا : ثلث استمروا على النّهي ، وثلث ملّوا التّذكير وسأموه وقالوا للواعظين : ﴿لِمَ تَعِظُونَ﴾ إلى آخره ، وثلث باشروا الخطيئة ، فلمّا لم ينتهوا قال المسلمون : نحن لا نساكنكم ، فباعوا الدّور والمساكن وخرجوا من القرية ، فضربوا الخيام خارجا منها ، أو اقتسموا القرية بجدار ؛ للمسلمين باب ، وللمعتدين باب ، ولعنهم داود.
فأصبح الناهون ذات يوم فخرجوا من أبوابهم وانتشروا لمصالحهم ، ولم يخرج من المعتدين أحد
__________________
(١) النحل : ١٦ / ١٢٤.
(٢) المخاض : الحوامل من النوق ، وابن المخاض : ولد الناقة أو البقرة إذا لقحت امّه. والانثى بنت مخاض.