الماضية ؛ فإنّه أخرجه من العدم إلى الوجود ، وأودع في خلقته من الحكم ما لو صرف عمره في معرفته لم يمكن معرفة جزء من ألف جزء منها ، ودبّر اموره أحسن التدبير داخلة وخارجة حتّى أوصلها إلى غاية الكمال الممكن من غير سؤال. فيقيس حينئذ أحواله المستقبلة على الماضية وأنّها لا تختلف ، فإذا تأمّل ذلك اعتمد على الله وترك الاضطراب.
وليس التوكّل هو ترك التصرّف في الامور بالكلّيّة ، ويقول : فوّضت أمري إلى الله. بل التوكّل هو أن يتيقّن أنّ ما عدا الله من الله لكن بعضها يتوقّف على شروط وأسباب ، فإنّ قدرته وإرادته تعالى لا يتعلّقان بكلّ شيء بل ببعض الأشياء ، فما تعلّقت قدرته وإرادته به هو الذي قارنه سببه وشرطه ، وما لم يتعلّق لم يقارناه ، فيكون الوجود والقدرة والإرادة من جملة الأسباب والشروط.
الثاني : الرضا. وهو ثمرة المحبّة ، ومقتض لترك الإنكار ظاهرا وباطنا اعتقادا وقولا وعملا. ومطلوب أهل الحقيقة هو أن يرضوا عن الله. وإنّما يحصل لهم ذلك إذا لم يختلف عندهم شيء من الأحوال المتقابلة كالموت والحياة والبقاء والفناء والصحّة والمرض والسعادة والشقاوة والغنى والفقر ، لا يخالف شيء من ذلك طباعهم ولا يترجّح شيء منها على الآخر عندهم ؛ لأنّهم عرفوا أنّ الجميع من الله ، وترسّخت محبّته في طباعهم ، فلا يطلبون على إرادته مزيدا البتّة فيرضون بالحاضر كيف كان. وإذا تحقّق علم أنّ رضا الله من العبد إنّما يحصل إذا حصل رضا العبد من الله (رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ) (١). وصاحب مرتبة الرضا لم يزل مستريحا ؛ لأنّه لم يوجد منه : «اريد» ولا «لا اريد» ؛ لتساويهما عنده.
الثالث : التسليم. والمراد منه أن يسلّم كلّ أمر ـ كان ينسبه إلى نفسه ـ إلى البارئ تعالى. وهذه المرتبة أعلى من مرتبة التوكّل ، فإنّ التوكّل تفويض الأمر إليه من غير قطع تعلّقه به بمنزلة من وكلّ غيره في أمر من الامور فإنّه يجعل لنفسه تعلّقا به ، والتسليم هو قطع هذا التعلّق. وأعلى أيضا من مرتبة الرضا ، فإنّ الراضي هو أن يكون ما يفعله الله
__________________
١ ـ المجادلة / ٢٢ ، البيّنة / ٨.