الوجوه فقد وصل إلى مرتبة التوحيد. وليس المراد من الاتّحاد ما توهّمه جماعة قاصروا النظر ، وهو أن يتّحد العبد بالله ، تعالى الله عن ذلك علوّا كبيرا. بل هو أن لا ينظر إلّا إليه من غير أن يتكلّف ويقول : كلّ ما عداه قائم به ، فيكون الكلّ واحدا. بل من حيث إنّه إذا صار بصيرا بنور تجلّيه لا يبصر إلّا ذاته تعالى لا الرائي ولا المرئيّ به. قالوا : ومن هذا قول من قال : أنا الحقّ. ومن قال : سبحاني ما أعظم شاني. لم يدّع الإلهيّة ، بل ادّعى (نفي إنّيّته بسلب إنّيّة غيره) (١).
السادس : الوحدة. قالوا : وحدة الشيء أبلغ من اتّحاده ؛ فإنّ الاتّحاد صيرورة الشيئين واحدا ، وفيه شمّة من كثرة ليست في الوحدة. وفي هذا المقام يعدم كلّ شيء من الكلام والذكر والحركة والسير والسلوك ، والطلب والطالب والمطلوب. «إذا بلغ الكلام إلى الله فأمسكوا» (٢). ولم يبق بعد ذلك إلّا مرتبة الفناء في التوحيد (كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ) (٣). لا يكون في الوحدة شيء من الامور المذكورة ولا غيرها (وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ) (٤).
قال : إلّا أنّ ذلك قباء لم يخط على قدّ كلّ ذي قدّ ، ونتائج لم يعلم مقدّماتها كلّ ذي جدّ ، بل (ذلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ) (٥). جعلنا الله وإيّاكم من السالكين لطريقه ، المستحقّين لتوفيقه ، المستعدّين لإلهام الحقيقة بتحقيقه ، المستبصرين بتجلّي هدايته وتدقيقه.
أقول : لمّا ذكر كيفيّة المجاهدات في السير المسمّى ب «السلوك» طلبا لاقتناص الواردات والوصول إلى الكمالات ، قال : إلّا أنّ ذلك قباء لم يخط على قدّ كلّ ذي قدّ.
__________________
١ ـ ما بين القوسين في «ح» : نفي إنّيّته بسلب اثنينيّته غيره ، وفي «م» : نفي اثنينيّة بسبب إنّيّة غيره ، وفي «ن» «خ» : إنّيّته بسبب إنّيّة غيره. وما أثبتناه تلفيق من النسخ.
٢ ـ عن سليمان بن خالد قال : قال أبو عبد الله عليهالسلام : «يا سليمان إنّ الله يقول : (أَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى). فإذا انتهى الكلام إلى الله فأمسكوا». الكافى ١ : ٩٢ / الحديث ٢ ، المحاسن ١ : ٢٣٧ / الحديث ٢٠٦ ، البحار ٣ : ٢٦٤.
٣ ـ القصص / ٨٨.
٤ ـ هود / ١٢٣.
٥ ـ المائدة / ٥٤.