أقول : لمّا ثبت أنّ للعبد فعلا ولله تعالى فعل أيضا أراد أن يفرّق بينهما بإعطاء قاعدة كليّة يستحضرها من يريد الفرق ، فقال : كلّ ما يستحقّ العبد عليه مدحا كالعبادة أو ذمّا كالمعصية أو يقال له : لم فعلت؟ كتجارته وأسفاره ، فهو فعله. وما لا يكون كذلك كحسن صورته وثقل جسمه أو خلق السماوات وجعل الكواكب فيها ، فليس ذلك بفعله ، بل بفعل الله سبحانه.
قال : أصل ـ إذا ثبت أنّ فعل البارئ تعالى تبع لداعيه ، والداعي هو العلم بمصلحة الفعل أو الترك ، فأفعاله تعالى لم تخل من مصالح (١) ، أي إنّه إنّما يفعل لغرض. وإذا ثبت أنّه كامل لذاته ومستغن عن الغير ، فتلك المصالح لم تعد إليه تعالى ، بل إلى عبيده. وإذا ثبت أنّ أفعاله لمصالح عبيده ، ثبت بطريق العكس أنّ كلّ ما فيه فساد بالنسبة إليهم لم يصدر عنه تعالى.
أقول : في هذا الأصل فوائد :
الأولى : أنّ فعل الله تعالى تبع لداعيه. وهذا تقدّم بيانه ، وهو معنى كونه مختارا.
الثانية : أنّه تعالى يفعل لغرض ، إمّا بمعنى أنّه يسوق أفعاله إلى كمالاتها ، والغرض انسياقها إلى كمالاتها ، وذلك ظاهر لمن تدبّر مخلوقاته. وإمّا بمعنى أنّه يفعل لمصالح ترجع إلى غيره ، والدليل على ذلك أنّ الداعي هو العلم بمصلحة الفعل أو الترك الباعث على إيجاده ، وإذا كان كذلك فأفعاله تعالى لم تخل من الحكم والمصالح ؛ لأنّ ذلك لازم من كونه فاعلا مختارا ، وذلك ثابت له بالبرهان ولازم اللازم لازم ، فأفعاله تلزمها المصالح والحكم. وتلك المصالح والحكم هي مرادنا بالأغراض ، ففعله تعالى لا يخلو من غرض. وهذا مذهب أصحابنا الإماميّة والمعتزلة (٢) خلافا للأشاعرة ؛ فإنّهم حكموا بسلب الغرض عن أفعاله تعالى (٣) ، وذلك باطل باتّفاق الفقهاء والحكماء.
__________________
١ ـ الفصول النصيريّة : عن المصالح.
٢ ـ ذهب أصحابنا الإماميّة والمعتزلة إلى أنّه تعالى يفعل لغرض ولا يفعل شيئا لغير فائدة. والدليل عليه أنّ كلّ فعل لا يقع لغرض فإنّه عبث. كشف المراد : ٢٣٨ ، الملل والنحل : ٥٠.
٣ ـ ذهبت الأشاعرة إلى أنّه لا يجوز تعليل أفعاله تعالى بشيء من الأغراض والعلل الغائيّة ، وإلّا لكان هو ناقصا في ذاته مستكملا بتحصيل ذلك الغرض. شرح تجريد العقائد للقوشجيّ : ٣٤٠.