وأمّا اللذّة العقليّة فأثبتها الحكماء له تعالى (١) ، قالوا : لأنّه مدرك لذاته ، وذاته أعظم الذوات وأجلّها ، وإدراكه أقوى الإدراكات وأتمّها ، فيكون أعظم مدرك لأجلّ مدرك بأتمّ إدراك. ويدرك أيضا حقائق الأشياء على ما هي عليه بأسبابها ولوازمها إدراكا كلّيّا يمتنع زواله. وبعض من أثبت اللذّة العقليّة منع من إطلاق هذه اللفظة عليه تأدّبا مع الشرع الشريف حيث لم ترد هذه اللّفظة فيه (٢).
قال : تبصرة ـ الضدّ عرض يعاقبه عرض آخر في محلّه ، وينافيه فيه ، والندّ هو المشارك في الحقيقة. وقد ثبت أنّ الواجب ، ليس بعرض ، ولا يشاركه غيره في حقيقته ، فلا ضدّ له ولا ندّ له.
أقول : يريد أن يبيّن أنّه تعالى لا ضدّ له ولا ندّ له ، فهنا مسألتان :
الأولى : أنّه لا ضدّ له. والضدّ يقال على ثلاثة معان :
الأوّل : عند الجمهور يقال على مساو في القوّة لشيء آخر ، ممانع له في الوجود والفعل. والواجب لا ضدّ له بهذا المعنى ؛ إذ كلّ ما سواه رشحة من رشحات فيض جوده. والمعلول لا يساوي العلّة ولا يمنع وجودها وإلّا لنافاها ، فيلزم كون المعلول منافيا لوجود نفسه وهو محال. والمصنّف لم يتعرّض لإبطال هذا القسم.
الثاني : الضدّان عرضان وجوديّان يصحّ تعاقبهما على محلّ واحد ، ويمتنع اجتماعهما فيه ، وبينهما غاية الخلاف ، وهذا تعريف الحكماء ويسمّى حقيقيّا.
الثالث : الضدّان عرضان وجوديّان يصحّ تعاقبهما على محلّ واحد ، ويمتنع اجتماعهما فيه. وهذا تعريف عامّة أهل العلم ويسمّى مشهوريّا.
والتعريف الثاني أخصّ من الثالث مطلقا ، فإنّ الثاني يستلزم الثالث ضرورة دون
__________________
١ ـ قالت الحكماء : اللذّة هو إدراك الملائم ، وهو تعالى عالم لذاته بذاته ، وأشدّ الملائمات بالقياس إليه هو ذاته تعالى ، فلذّته أعظم اللذّات. تلخيص المحصّل : ٤٥٠.
٢ ـ قال العلّامة في كشف المراد : وقد يعنى بالألم إدراك المنافي ، وباللذّة إدراك الملائم. فالألم بهذا المعنى منفيّ عنه ؛ لأنّ واجب الوجود لا منافي له. وأمّا اللذّة فقد اتّفق الأوائل على ثبوتها لله تعالى ؛ لأنّه مدرك لأكمل الموجودات أعني ذاته فيكون ملتذّا به. والمصنّف كأنّه قد ارتضى هذا القول ، وهذا مذهب ابن نوبخت وغيره من المتكلّمين ، إلّا أنّ إطلاق لفظ الملتذّ عليه يستدعي الإذن الشرعيّ. كشف المراد : ٢٢٩.