بالحدوث إلّا مسبوقيّة الوجود بالعدم. وهذا الدليل يدلّ على حدوث كلّ ما عدا الواجب ، جسما كان أو عرضا أو مجرّدا ؛ لشمول الإمكان لكلّ واحد منها. وإنّما قيّدنا الحدوث بالزمانيّ ؛ لأنّ الحدوث يقال على معنيين :
أحدهما : زمانيّ ، وهو كون الوجود مسبوقا بالعدم سبقا لا يجتمع السابق مع المسبوق ، بأن يكون العدم في زمان ، والوجود في زمان آخر بعده.
وثانيهما : ذاتي ، وهو كون الوجود مسبوقا بالغير ، وهو لا ينافي القدم الزماني.
وبيانه : أنّ الممكن لمّا لم يكن وجوده من ذاته بل من غيره فكان ـ بالنظر إلى ذاته ـ لا يستحقّ الوجود ، وإنّما يحصل له الوجود بالسبب المغاير لذاته. فيكون عدم استحقاق الوجود حاصلا له من ذاته واستحقاق الوجود حاصلا له من غيره ، وما بالذات أسبق ممّا بالغير ، فيكون عدم استحقاق الوجود سابقا على الوجود المعنيّ بالحدوث الذاتيّ. وفي قول المصنّف : «وهذا الوجود يسمّى حدوثا» تسامح ؛ لأنّ الحدوث كيفيّة الوجود ، والوجود متقدّم عليها تقدّم الموصوف على الصفة ، فلا يكون نفسه.
قال : واستحالة حوادث لا إلى أوّل ـ كما يقوله الفلسفيّ ـ لا يحتاج إلى بيان طائل بعد ثبوت إمكانها المقتضي لحدوثها.
أقول : هذا هو البحث الثاني في هذا الأصل. واعلم أنّ الفلاسفة لمّا قالوا بقدم العالم جوّزوا تحقّق حوادث لا إلى أوّل قبل كلّ حادث حادث وهكذا إلى غير النهاية ؛ وذلك لأنّهم يشترطون في بطلان التسلسل اجتماع أفراده في الوجود الخارجيّ ، وترتيبها أحد الترتيبين : إمّا الطبيعيّ أو الوضعيّ ، فلذلك جوّزوا حوادث لا إلى أوّل ؛ لأنّها وإن كانت مترتّبة لكن لا تجتمع أجزاؤها في الوجود (١). والمتكلّمون منعوا من ذلك ، ولهم على إبطال
__________________
١ ـ لا بأس بذكر علّة ذهاب الفلاسفة إلى القول بقدم العالم ، ثمّ بيان ما يترتّب عليه من القول بتحقّق حوادث لا إلى أوّل.
قال المحقّق الطوسيّ في تلخيص المحصّل : إنّ إثبات القادريّة لله تعالى مبنيّ على حدوث العالم وإبطال حوادث لا إلى أوّل. ثمّ قال : واعلم أنّ القادر هو الذي يصحّ أن يصدر عنه الفعل وأن لا يصدر ، وهذه الصحّة هي القدرة. وإنّما يترجّح أحد الطرفين على الآخر بانضياف وجود الإرادة أو عدمها إلى القدرة. والفلاسفة لا ينكرون ذلك ، إنّما الخلاف في الفعل مع