الثانية : أنّ الصادر عنه أوّلا بلا واسطة هو العقل ، وبيان هذه الدعوى موقوف على تصوّر أقسام الممكن.
قالوا : الموجود الممكن إمّا أن يفتقر إلى موضوع أولا. والمراد بالموضوع هو المحلّ المقوّم لما يحلّ فيه. فإن كان الأوّل فهو العرض ، وإن كان الثاني فهو الجوهر. فإمّا أن يكون محلّا ، أو حالّا ، أو مركّبا منهما ، أو ليس واحدا من الثلاثة. فإن كان محلّا فهو المادّة ، وإن كان حالّا فهو الصورة ، وإن كان مركّبا منهما فهو الجسم ، وإن لم يكن واحدا من الثلاثة فهو المجرّد. فإن افتقر في كمالاته إلى البدن فهو النّفس وإن لم يفتقر فهو العقل.
إذا تقرّر هذا قالوا : لا يجوز أن يكون الصادر الأوّل عنه عرضا ؛ لأنّ العرض مفتقر إلى الموضوع فهو يستدعي سبقيّته. فلو كان هو الأوّل لتقدّم على محلّه. ولا مادّة ؛ وإلّا لكانت صالحة للتأثير ، لكن المادّة لا تصلح ؛ لأنّها قابلة والفاعل لا يكون قابلا. ولا صورة ؛ لأنّها مفتقرة في فاعليّتها إلى المادّة فلا تكون سابقة عليها. ولا جسما ؛ لتركّبه ، فيكون الصادر اثنين لا واحد. ولا نفسا ؛ لأنّها تتوقّف في فعلها على الآلة ، فتستدعي سبقيّتها. فلم يبق إلّا العقل ، وهو المطلوب. هذا تقرير ما قالوه (١) ، وقد عرفت ضعف مبناه.
__________________
١ ـ استدلّوا على إثبات الجواهر المجرّدة التي هي العقول بوجوه : الأوّل : قالوا : إنّ الله تعالى واحد فلا يكون علّة للمتكثّر ، فيكون الصادر عنه واحدا ، فلا يخلو إمّا أن يكون جسما أو مادّة أو صورة ، أو نفسا أو عرضا أو عقلا ، والأقسام كلّها باطلة سوى الأخير.
أمّا الأوّل : فلأنّ كلّ جسم مركّب من المادّة والصورة. وقد بيّنّا أنّ المعلول الأوّل واحد.
أمّا الثاني : فلأنّ المادّة هي الجوهر القابل ، فلا تصلح للفاعليّة ؛ لأنّ نسبة القبول نسبة الإمكان ، ونسبة الفاعل نسبة الوجوب ، ويستحيل أن تكون نسبة الشيء الواحد إلى الواحد نسبة إمكان ووجوب.
أمّا الثالث : فلأنّ الصورة مفتقرة في فاعليّتها وتأثيرها إلى المادّة ، لأنّها إنّما تؤثّر إذا كانت موجودة مشخّصة. وإنّما تكون كذلك إذا كانت مقارنة للمادّة. فلو كانت الصورة هي المعلول الأوّل السابق على غيره لكانت مستغنية في عليّتها عن المادّة ، وهو محال.
أمّا الرابع : فلأنّ النفس إنّما تفعل بواسطة البدن ، فلو كانت هي المعلول الأوّل لكانت علّة لما بعدها من الأجسام ، فتكون مستغنية في فعلها عن البدن فلا تكون نفسا بل عقلا ، وهو محال.
أمّا الخامس : فلأنّ العرض محتاج في وجوده إلى الجوهر ، فلو كان المعلول الأوّل عرضا لكان علّة للجواهر كلّها ، فيكون السابق مشروطا باللّاحق في وجوده ، وهو باطل بالضرورة.
قال العلّامة : إذا عرفت هذا الدليل فنقول بعد تسليم اصوله : إنّه إنّما يلزم لو كان المؤثّر موجبا ، وأمّا إذا كان مختارا فلا ، فإنّ المختار تتعدّد آثاره وأفعاله. وسيأتي الدليل على أنّه مختار. كشف المراد : ١٣١.