وعن الثاني بمنع صحّة الحديث أوّلا ، وبكونه خبر واحد على تقدير صحّته فلا يفيد علما ثانيا ، وبإمكان حمله على الكشف التامّ أعني معرفته معرفة ضروريّة ثالثا.
واعلم أنّ الكشف التّام يمكن أن يكون جوابا عن كلّ واحدة من هذه الآيات المتقدّمة ؛ لإمكان استعمال الرؤية والنظر في العلم مجازا ، تسمية للمسبّب باسم السبب ، لقيام الدليل العقلي على امتناع رؤيته تعالى. فلذلك أطلق المصنّف ، مكتفيا عن تفصيل الأجوبة في قوله : اريد به الكشف التامّ.
قال : هداية ـ البارئ تعالى قادر على كلّ مقدور ، فيكون قادرا على إيجاد حروف وأصوات منظومة في جسم جامد ، وهو كلامه تعالى ، وهو باعتبار خلقه إيّاه متكلّم. ويعلم من تركيبه من الحروف والأصوات كونه غير قديم ؛ لأنّه عرض لا يبقى ، فكيف يكون قديما؟!
فإن قيل : المراد من الكلام حقيقة تصدر عنها هذه الحروف والأصوات ، وهي قديمة ؛ لأنّها صفة الله تعالى.
قلنا : إنّا بيّنّا أنّ مصدرها ليس إلّا ذاته ، وأنّه لا قديم سواه ، فإن ساعدونا في المعنى فلا منازعة في اللفظ.
أقول : هذه المسألة أعني كونه سبحانه متكلّما لم يذكرها الحكماء ، وتفرّد المسلمون بالبحث عنها. وهي أوّل مسألة بحث المتكلّمون في صدر الإسلام عن تفاصيلها ، وبذلك سمّي هذا الفنّ علم الكلام (١).
__________________
١ ـ قيل : في تسمية علم الكلام وجوه ، الأوّل : وهو الذي أشار إليه المصنّف من أنّ أوّل مسألة بحث عنها المسلمون صفة التكلّم لله تعالى ، وأنّ كلامه قديم أو حادث. وهذه المسألة من أكثرها نزاعا وجدالا ، حتّى أنّ بعض المتغلّبة قتل كثيرا من أهل الحقّ لعدم قولهم بخلق القرآن.
الثاني : أنّه يورث قدرة على الكلام في تحقيق الشرعيّات وإلزام الخصوم.
الثالث : أنّه لقوّة أدلّته صار كأنّه هو الكلام دون ما عداه.
الرابع : أنّ عنوان مباحثه كان قولهم : الكلام في كذا وكذا.
الخامس : أنّه أوّل ما يجب من العلوم التي تعلم وتتعلّم بالكلام. فاطلق عليه هذا الاسم لذلك. ثمّ خصّ به ولم يطلق على غيره تمييزا له.