أودع في الإنسان وفي الأرض ما أودع من طاقات ليميز بين الذين يعيشون بسبب مشروع وبين الذين يعيشون على حساب المستضعفين ، فيعاقب هؤلاء على عصيانهم ، ويثيب أولئك على طاعتهم لله ورسوله (وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ) إن كثيرا من المشركين رفضوا الإيمان بمحمد (ص) لما وقع في تصورهم من أن العظام لن تعود إلى الحياة وهي رميم ورفات ... وما أبعد بين عقل هؤلاء وعقل الإمام علي (ع) الذي قال : عجبت لمن أنكر النشأة الأخرى ، وهو يرى النشأة الأولى. وسأل النبي (ص) سائل : كيف يبعث الله الموتى؟ فقال : أما مررت بوادي قومك جدبا ، ثم مررت به يهتز خضرا؟ فقال السائل : بلى يا رسول الله. قال : كذلك يبعث الله الموتى وإذن فأين السحر؟
٨ ـ (وَلَئِنْ أَخَّرْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ إِلى أُمَّةٍ) مدة (مَعْدُودَةٍ لَيَقُولُنَّ ما يَحْبِسُهُ) ما الذي منع من وقوع العذاب علينا الآن إن كان حقا كما يقول (أَلا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ) ـ العذاب ـ (لَيْسَ مَصْرُوفاً عَنْهُمْ) لأن بأسه تعالى لا يرد عن القوم المجرمين (وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) نزل بهم العذاب الذي استخفوا به ، وسخروا منه (فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلاً وَلْيَبْكُوا كَثِيراً جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ) ـ ٨٢ التوبة».
٩ ـ ١٠ ـ (وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْناها مِنْهُ إِنَّهُ لَيَؤُسٌ كَفُورٌ ...) هذه الأوصاف : اليأس والكفر والفرح والفخر المذكورة في هاتين الآيتين ، وكذلك العجلة وحب المال والنساء والمتاع كما في العديد من الآيات ، هذه الأوصاف ليست ذاتية للإنسان ولا تحديدا لطبيعته من حيث هي وإلا لشملت هذه الأوصاف وعمت الأنبياء والأئمة والأتقياء ، ولما صح استثناء (الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) كما في آخر الكلام ، وإنما هي تفسير لسلوك الكثير من أفراد الإنسان الذين يتأثرون بما يحيط بهم من عوامل وظروف اقتصادية أو اجتماعية أو سياسية ، ولذا ربط سبحانه وصف اليأس والكفر بحدوث الضراء بعد النعماء ، ووصف الفرح والفخر بحدوث النعماء بعد الضراء ، ولو كانت هذه الأوصاف ذاتية داخلية لا عرضية خارجية لكانت جنسا للإنسان أو فصلا لا تفارقه بحال. ومن هذا الباب قول الإمام (ع) في نهج البلاغة : إن أصابه بلاء دعا مضطرا وإن ناله رخاء أعرض مغترا ... إن استغنى بطر ، وإن افتقر قنط.
١١ ـ (إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) فإنهم يمتازون عن سائر أفراد الإنسان بالاستقلال في شخصيتهم ، والإخلاص لدينهم ، والثبات على عقيدتهم في السراء والضراء والرضا والغضب ، والفرح والترح ، ويتحملون كل المشاق ، والنكبات في سبيل ما يدينون ، ويقابلونها بشجاعة من غير تظلم وتأفف.
١٢ ـ (فَلَعَلَّكَ) يا محمد (تارِكٌ بَعْضَ ما يُوحى إِلَيْكَ) أبدا ، لا يترك النبي ولن يترك بيان الحق إلى الخلق ، كيف وهو أمانة في عنقه! ولكن بعض المشركين كانوا يستهزئون ويسخرون منه ومن القرآن إذا دعاهم إلى الإيمان ، ويقترحون عليه معجزات حسب أهوائهم تعنتا لا استرشادا ، فمر بخاطر النبي (ص) ـ كما نظن ـ أن