يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ قُبُلاً) وجها لوجه ، ومعنى الآية بجملتها أنه تعالى بعد أن قال عن الإنسان انه كثير الجدال ، قال : أتدرون لماذا يتمرد أكثر الناس على الحق المبين الظاهر لأنهم لا يؤمنون بل منهم من يصرّ على الضلال حتى الهلاك كما جرى لكثير من الأولين بمنطق الحق والعقل ، بل بمنطق القوة والعذاب.
٥٦ ـ (وَما نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ) بالنعيم من يسمع لأمر الله ويطيع (وَمُنْذِرِينَ) بالجحيم من تمرد وعصى وتقدم مرات ، منها في الآية ١٦٥ من النساء (وَيُجادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْباطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَ) يخذلون الحق ويناصرون الباطل قولا وعملا (وَاتَّخَذُوا آياتِي وَما أُنْذِرُوا هُزُواً) أقام سبحانه الشواهد والدلائل وأنذر من تمرد بعذاب أليم ، فاتخذ المجرمون من الأدلة والإنذار موضوعا للهو واللعب ، وكل من عرف الحق ولم يعمل به فقد اتخذ دين الله هزوا ولعبا ٥٧ ـ (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْها) لأن الحق عنده هواه ومناه (وَنَسِيَ ما قَدَّمَتْ يَداهُ) يستهين بكل كبيرة وجريمة وكأنها أحل الحلال تماما كمن كان يأكل الربا ويسميه اللبأ (إِنَّا جَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً) أغطية (أَنْ يَفْقَهُوهُ) القرآن (وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً) صمما ، والقصد في هذه الحكاية والإخبار عما هو واقع وكائن وليس الخلق والإيجاد. وتقدم بالحرف في الآية ٢٥ من الأنعام وغيرها.
(وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذاً أَبَداً) لأنهم يرمون سلفا إلى هدف معيّن ، لا يحيدون عنه بحال ، وإذن فمن العبث أن تتعب نفسك في إرشادهم وهدايتهم.
٥٨ ـ (وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤاخِذُهُمْ بِما كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذابَ) ولكن يؤجلهم عسى أن يرجعوا إلى السمع والطاعة (بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ) وهو يوم القيامة (لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلاً) ملجأ ، وتقدم في الآية ٦١ من النحل.
٥٩ ـ (وَتِلْكَ الْقُرى) كقوم نوح وعاد وثمود (أَهْلَكْناهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا) هذا تهديد لمن حارب دعوة التوحيد وكلمته : أن يأخذهم سبحانه كما أخذ الذين من قبلهم وفعلوا مثل ما فعلوا ٦٠ ـ (وَإِذْ قالَ مُوسى لِفَتاهُ) إذا أطلقت كلمة موسى في القرآن الكريم فهم منها موسى بن عمران (ع) أما فتاه فالمراد به يوشع بن نون أو يشوع كما في التوراة ، وفي قاموس الكتاب المقدس : انه كان خادما لموسى ، ثم عيّنه لقيادة بني إسرائيل ، ثم خليفة له (لا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ) لا أزال سائرا حتى أصل إلى هذا المكان وقيل : هو ملتقى البحر الأبيض والبحر الأحمر (أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً) زمنا طويلا ، والمعنى إما أن أبلغ مجمع البحرين واما أن أبقى سائرا إلى ما شاء الله.
٦١ ـ (فَلَمَّا بَلَغا) موسى وفتاه (مَجْمَعَ بَيْنِهِما) بين البحرين (نَسِيا حُوتَهُما فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَباً) قيل : إن سائلا سأل موسى : أي الناس أعلم؟ قال : أنا فأوحى سبحانه إليه : عند مجمع البحرين رجل يعلم ما لا تعلم.
قال : كيف لي به؟ قال تعالى : تحمل معك حوتا ميتا فحيث تفقده فالعالم هناك ، فحمل الحوت وجدّ في السير هو وفتاهه حتى بلغا مجمع البحرين ، فأخذت موسى سنة فنام ، وفي أثناء نومه قفز الحوت إلى البحر ، فكانت هذه آية من آيات الله لموسى ، وكان ذلك بمرأى من يوشع ، وحين استيقظ موسى من نومه قال له : هلمّ نتابع السير.