الياء أصل الألف ؛ فكما أن الهاء تضمّ بعد الألف فكذلك تضمّ بعد الياء المبدلة منها.
ومن كسر الهاء اعتبر اللفظ ، فأمّا كسر الهاء وإتباعها بياء ساكنة فجائز على ضعف ، أما جوازه فلخفاء الهاء بيّنت بالإشباع ، وأما ضعفه فلأنّ الهاء خفيّة ، والخفيّ قريب من الساكن ، والساكن غير حصين ، فكأن الياء وليت الياء.
وإذا لقى الميم ساكن بعدها جاز ضمّها ، نحو : عليهم الذّلّة ؛ لأنّ أصلها الضم ، وإنما أسكنت تخفيفا ، فإذا احتيج إلى حركتها كان الضمّ الذي هو حقّها في الأصل أولى ، ويجوز كسرها اتباعا لما قبلها.
وأما : فيه ، وبنيه ، ففيه الكسر من غير إشباع ، وبالإشباع ، وفيه الضمّ من غير إشباع ، وبالإشباع.
وأما إذا سكن ما قبل الهاء ، نحو : منه ، وعنه ، وتجدوه ، فمن ضمّ من غير إشباع فعلى الأصل ، ومن أشبع أراد تبيين الهاء لخفائها.
سورة البقرة
١ ـ (الم) : هذه الحروف المقطعة كلّ واحد منها اسم ؛ فألف : اسم يعبّر به عن مثل الحرف الّذي في قال. ولام يعبّر بها عن الحرف الأخير من قال ، وكذلك ما أشبهها.
والدليل على أنها أسماء أنّ كلا منها يدلّ على معنىّ في نفسه.
وهي مبنية ؛ لأنك لا تريد أن تخبر عنها بشيء ؛ وإنما يحكى بها ألفاظ الحروف التي جعلت أسماء لها ؛ فهي كالأصوات ؛ نحو : غاق ـ في حكاية صوت الغراب.
وفي موضع (الم) ثلاثة أوجه :
أحدها ـ الجر على القسم ، وحرف القسم محذوف ، وبقي عمله بعد الحذف ؛ لأنه مراد ، فهو كالملفوظ به ، كما قالوا : الله لتفعلنّ ، في لغة من جرّ.
والثاني ـ موضعها نصب ؛ وفيه وجهان : أحدهما ـ هو على تقدير حذف القسم ، كما تقول : الله لأفعلن ، والناصب فعل محذوف تقديره : التزمت الله ؛ أي اليمين به. والثاني ـ هي مفعول بها تقديره : اتل آلم.
والوجه الثالث ـ موضعها رفع بأنها مبتدأ وما بعدها الخبر.
٢ ـ (ذلِكَ) : ذا اسم إشارة ، والألف من جملة الاسم.
وقال الكوفيون : الذال وحدها هي الاسم ، والألف زيدت لتكثير الكلمة ، واستدلوا على ذلك بقولهم : ذه أمة الله ؛ وليس ذلك بشيء ؛ لأنّ هذا الاسم اسم ظاهر ، وليس في الكلام اسم ظاهر على حرف واحد حتى يحمل هذا عليه ؛ ويدلّ على ذلك قولهم في التصغير : ذيّا ؛ فردّوه إلى الثلاثي ، والهاء في ذه بدل من الياء في ذي.
وأما اللام فحرف زيد ليدلّ على بعد المشار إليه.
وقيل : هي بدل من ها ؛ ألا تراك تقول : هذا ، وهذاك ؛ ولا يجوز هذلك.
وحرّكت اللام لئلا يجتمع ساكنان ، وكسرت على أصل التقاء الساكنين ؛ وقيل : كسرت للفرق بين هذه اللام ولام الجر ؛ إذ لو فتحتها فقلت ذلك لا لتبس بمعنى الملك.
وقيل : ذلك هاهنا بمعنى هذا.
وموضعه رفع ؛ إما على أنه خبر آلم ، والكتاب عطف بيان ، ولا ريب في موضع نصب على الحال ؛ أي هذا الكتاب حقّا ، أو غير ذي شك ؛ وإمّا أن يكون ذلك مبتدأ والكتاب خبره ، ولا ريب حال. ويجوز أن يكون الكتاب عطف بيان ، ولا ريب فيه الخبر.
و (رَيْبَ) : مبنىّ عند الأكثرين ، لأنه ركب مع لا وصيّر بمنزلة خمسة عشر ؛ وعلّة بنائه تضمّنه معنى من ؛ إذ التقدير : لا من ريب ، واحتيج إلى تقدير من لتدلّ «لا» على نفي الجنس ؛ ألا ترى أنك تقول : لا رجل في الدار ، فتنفي الواحد وما زاد عليه ، فإذا قلت : لا رجل في الدار ، فرفعت ونوّنت نفيت الواحد ولم تنف ما زاد عليه ؛ إذ يجوز أن يكون فيها اثنان أو أكثر.
وقوله : (فِيهِ) فيه وجهان :
أحدهما ـ هو في موضع خبر لا ، ويتعلّق بمحذوف ، تقديره : لا ريب كائن فيه ، فتقف حينئذ على «فيه».
والوجه الثاني ـ أن يكون لا ريب آخر الكلام ، وخبره محذوف للعلم به ، ثم تستأنف ، فتقول : فيه هدى ، فيكون هدى مبتدأ وفيه الخبر ؛ وإن شئت كان هدى فاعلا مرفوعا بفيه ؛ ويتعلّق «فى» على الوجهين بفعل محذوف.
وأما هدى فألفه منقلبة عن ياء ؛ لقولك : هديت ، والهدي.
وفي موضعه وجهان :
أحدهما ـ رفع ، إما مبتدأ ، أو فاعل على ما ذكرنا ؛ وإما أن يكون خبر مبتدأ محذوف ؛ أي هو هدى ؛ وإما أن يكون خبرا لذلك بعد خبر.
والوجه الثاني ـ أن يكون في موضع نصب على الحال من الهاء في فيه ؛ أي لا ريب فيه هاديا ؛ فالمصدر في معنى اسم الفاعل ، والعامل في الحال معنى الجملة ، تقديره : أحقّقه هاديا.
ويجوز أن يكون العامل فيه معنى التنبيه والإشارة الحاصل من قوله ذلك.
(لِلْمُتَّقِينَ) : اللام متعلقة بمحذوف تقديره كائن ، أو كائنا على ما ذكرناه من الوجهين في الهدى ؛ ويجوز أن يتعلق اللام بنفس الهدى ؛ لأنه مصدر ، والمصدر يعمل عمل الفعل.
وواحد المتقين متّقي ؛ وأصل الكلمة من وقى فعل ، ففاؤها واو ولامها ياء ، فإذا بنيت من ذلك افتعل قلبت الواو تاء وأدغمتها في التاء الأخرى ، فقلت : اتّقى ، وكذلك في اسم الفاعل وما تصرّف منه ؛ نحو متّق ومتّقى.
ومتّق : اسم ناقص ، وياؤه التي هي لام محذوفة في الجمع لسكونها وسكون حرف الجمع بعدها ؛ كقولك : متّقون ومتّقين ، ووزنه في الأصل مفتعلون ؛ لأنّ أصله موتقيون ، فحذفت اللام لما ذكرنا ، فوزنه الآن مفتعون ومفتعين ؛ وإنما حذفت اللام دون علامة الجمع ؛ لأن علامة الجمع دالة على معنى ، إذا حذفت لا يبقى على ذلك المعنى دليل ، فكان إبقاؤها أولى.
٣ ـ (الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ) : هو في موضع جرّ صفة للمتقين.
ويجوز أن يكون في موضع نصب ، إما على موضع للمتقين ، أو بإضمار أعني.
ويجوز أن يكون في موضع رفع على إضمار «هم» ، أو مبتدأو خبره أولئك على هدى.
وأصل يؤمنون يؤامنون ؛ لأنه من الأمن ، والماضي منه آمن ، فالألف بدل من همزة ساكنة قلبت ألفا كراهية اجتماع همزتين ، ولم يحققوا الثانية في موضع ما لسكونها وانفتاح ما قبلها.
ونظيره في الأسماء : آدم ، وآخر.
فأما في المستقبل فلا تجمع بين الهمزتين اللتين هما الأصل ؛ لأن ذلك يفضي بك في التّكلم إلى ثلاث همزات : الأولى همزة المضارعة ، والثانية همزة افعل التي في آمن ، والثالثة الهمزة التي هي فاء الكلمة ؛ فحذفوا الوسطى كما حذفوها في أكرم لئلا تجتمع الهمزات ، وكان حذف الوسطى أولى من حذف الأولى ؛ لأنها حرف معنى ، ومن حذف الثالثة ؛ لأنّ الثالثة فاء الكلمة. والوسطى زائدة.
وإذا أردت تبيين ذلك فقل : إن آمن أربعة أحرف ، فهو مثل دحرج ، فلو قلت : أدحرج لأتيت بجميع ما كان في الماضي وزدت عليه همزة المتكلم ، فمثله يجب أن يكون في أومن ، فالباقي من الهمزات : الأولى ، والواو التي بعدها مبدلة من الهمزة الساكنة التي هي فاء الكلمة ، والهمزة الوسطى هي المحذوفة ؛ وإنما قلبت الهمزة الساكنة واوا لسكونها وانضمام ما قبلها.