الجهة الثالثة : في الكلام النفسي والطلب النفسي وعدمهما
ذهبت الأشاعرة (١) إلى ثبوت صفة حقيقيّة في المتكلّم غير العلم تسمّى بالكلام النفسي ، وأنّ الكلام اللفظي كاشف عنه كشف الفعل الخارجي عن تعلّق الإرادة به ، لا أنّ الكلام النفسي يكون مدلولا للكلام اللفظي كما هو المنسوب إليهم في كتب الاصول التي بأيدينا.
وبالجملة ، فهم يدّعون أنّ في النفس كلاما نظير الكلام اللفظي ، غير أنّ الكلام اللفظي تدريجي الحصول وذاك أمر دفعي الحصول في النفس ، ويكون الكلام اللفظي كاشفا عنه ، كما تقدّم. وهذا الكلام النفسي الذي يدّعونه غير تصوّر الشيء وبقيّة مقدّمات طلبه من العزم والجزم والتصديق بالفائدة والشوق ، ولكنّ الكلام كلّ الكلام في إثبات هذا الكلام النفسي المدّعى. وقد استدلّوا عليه بامور :
الأوّل : قول الشاعر : إنّ الكلام لفي الفؤاد ... إلخ (٢) وقول الشخص للآخر : إنّ في نفسي كلاما لا احبّ بيانه ، وقوله تعالى : (فَأَسَرَّها يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِها لَهُمْ)(٣).
الثاني : أنّ كلّ متكلّم لا يتكلّم إلّا بعد أن ينظّم كلامه في نفسه ، وهذا هو المراد من الكلام النفسي.
والجواب عنهما : أنّه إن كان المراد بالكلام النفسي هو هذا المعنى فهذا هو عين العلم بكلامه قبل تحقّقه ، مع أنّه موجود في جميع الأفعال الاختياريّة ، فإنّ الأكل أيضا مسبوق بتصوّره ، وهكذا الشرب والنوم وغيرها من أفعاله الاختياريّة ،
__________________
(١) راجع شرح المواقف ٨ : ٩٣ ـ ٩٤.
(٢) قاله الأخطل كما في شوارق الإلهام : ٥٥٥.
(٣) يوسف : ٧٧.