وإن كان جهة عقابه هو الكسب ـ كما صرّح به أبو الحسين البصري في جواب هذه المصيبة المتوجّهة إليه ـ فنقول : ما معنى الكسب الذي ذكرتم أنّه هو سبب الإطاعة؟ فإن كان الكسب بمعناه الظاهري في قوله (١) [تعالى] : (لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ)(٢) فهو معناه : لها ما فعلته فعلا ناشئا من اختيار مستندا إلى إرادة نفسانيّة ، وإن أراد من الكسب معنى آخر فهو لا يعقله ـ كما اعترف جملة منهم به ـ فما لا يعقل أولى أن لا يعاقبنا الله تعالى بسببه.
وقد ذكر أبو بكر الباقلاني (٣) جوابا آخر هو : أنّ الفعل له جهتان : الاولى جهة كونه فعلا وهذه الجهة مسندة إلى الله تعالى ، وجهة كونه طاعة أو معصية وهذه مستندة إلى العبد وبسببها الثواب والعقاب.
والجواب : أنّ هذه الجهة وهي جهة كونها طاعة أو معصية انتزاعيّة ؛ إذ الطاعة ليست إلّا مطابقة المأتيّ به للمأمور به ، فموجدها هو موجد منشأ انتزاعها ، وإن لم تكن انتزاعيّة فهي أيضا موجود من الموجودات المتأصّلة فينقل الكلام إليها ، فنقول : من يوجدها؟ فإن كان العبد هو الموجد لها فهو الشرك المتوهّم الذي فررتم منه قد وقعتم فيه ، فلما ذا التزمتم بأنّ الله هو الخالق للأفعال ، فالتزموا من أوّل الأمر بأنّ العبد هو الموجد وحده أو بمعونة غيره ، وإن أوجد هذه الصفة الله ، فلما ذا يعاقب العبد عليها؟
وقد أجاب بعضهم بجواب آخر ملخّصه إنكار الحسن والقبح العقليّين (٤) ، والتزم بأنّ الله له أن يدخل أشرف أنبيائه في أسفل درك من جهنّم وأن يدخل أعصى
__________________
(١) في الأصل : قولها ، وهو سهو.
(٢) البقرة : ٢٨٦.
(٣) شرح المواقف ٨ : ١٤٧.
(٤) راجع شرح المواقف ٨ : ١٨١ وما بعدها و ٢٠٢ وما بعدها.