فإنّه انكشف لديه أنّ زيدا يصلّي باختياره وأنّ عمرا يزني باختياره ، إلّا أنّ انكشاف ذلك له لا ربط له بأصل الصدور ؛ إذ ليس هذا العلم هو المحقّق له ، بل بما أنّه يتحقّق واقعا تعلّق علم الله به لا بالعكس ، بل لو صدر العمل منه بغير الاختيار لنسب الجهل إلى الله ، تعالى عمّا يقوله الظالمون علوّا كبيرا! لعلمه بصدوره منه اختيارا.
والظاهر أنّ كلامهم مغالطة ، فإنّ عندنا علما له مدخليّة في العمل الخارجي ، وهو تصوّر نفس الفاعل له ، إلّا أنّ هذا العلم إنّما هو من المكلّف لا من الله تعالى. ولو كان علمه بصدور الفعل يوجب الجبر لكانت أفعاله جبرية عليه أيضا ، لتعلّق علمه بأنّه يخلق ويرزق وينزل الغيث .. إلى آخر معلوماته ، فهل يلتزم الأشعري بأنّ أفعاله تعالى جبريّة عليه؟ ولا بعد في التزامه ذلك بعد نفي الحسن والقبح.
ثالثها : أنّ كلّ ممكن لا بدّ له من علّة حتّى يتحقّق ؛ إذ نسبته إلى طرفي الوجود والعدم متساوية ، فلا يعقل أن يتحقّق أحد الطرفين ما لم يحصل مرجّح له ، لاستحالة الترجيح من غير مرجّح ، فهذا المرجّح إن كان محقّقا لوجوب ذلك الفعل فلا يستطيع العبد ترك الفعل بعد وجوبه ، وإن لم يكن محقّقا لوجوبه فلا يوجد ؛ إذ الشيء ما لم يجب لم يوجد ، فلا بدّ من مرجّح آخر ليجب ، فإن وجب فيستحيل تركه ، وإلّا فلا يوجد ، وهكذا حتّى يجب صدوره وحينئذ فلا يقدر العبد على تركه وهو معنى الجبر.
والجواب : أنّا نرى وجدانا عند صدور عمل منّا أنّا نتصوّره أوّلا ، ثمّ نتصوّر فائدته لنا ، ثمّ نتصوّر عدم المانع منه ، أو نوطّن أنفسنا على ما يحدث بسببه من الموانع ، ثمّ نميل إليه ، ثمّ نرى أنفسنا قادرين على إيجاده وعلى استمرار عدمه ، وهذه هي القدرة ، ثمّ نختار أحد الأمرين ، وهذه هي رتبة الاختيار ومعنى الاختيار طلب الخير ، فليت شعري! متى صار الفعل جبريا وهو يصدر بالاختيار؟ ولو أراد أن لا يصدره لا يصدره.