وأمّا خامسا : فلأنّ جملة من العلوم يستحيل أخذ الجامع الحقيقي وتصويره بين أفراد مسائله ، مثل علم الفقه مثلا الذي هو أشرف العلوم بعد علم أصول الدين ، فإنّه تارة يبحث عن الجواهر مثل الماء وحكمه ، واخرى عن الأعراض مثل شرب الخمر ، وتارة عن الأمور الحقيقيّة مثل الماء أيضا ، واخرى عن الانتزاعيّة كالغصب ، وتارة عن الأمور الوجودية مثل الصلاة ، واخرى عن الأمور العدميّة مثل الصوم وتروك الإحرام ، وتارة عن بعض المقولات ، واخرى عن بعض آخر ، ومعلوم في محلّه استحالة الجامع بين الأمور الوجوديّة والعدميّة وجامع بين مقولتين وبين الجواهر والأعراض وبين الحقيقي والانتزاعي.
ودعوى أنّ الجامع هو أفعال المكلّفين مدفوعة بأنّه جامع انتزاعي لا حقيقي والكلام في الحقيقي ، مضافا إلى أنّ كون أفعال المكلّفين هو الجامع أوّل الكلام ؛ فإنّ نجاسة الماء وطهارته ونجاسة الخمر وطهارته ومثل كون المال ميراثا وغيرها من الأحكام التي موضوعها ليس هو أفعال المكلّفين.
وبالجملة فقد ظهر أنّه لا يلزم أن يكون للعلم موضوع أصلا ؛ لأنّ ما ذكر دليلا على لزوم الموضوع قد عرفت ما فيه.
ومن هنا سقط كون البحث عن عوارض ذلك الموضوع الذاتيّة دون الغريبة ؛ إذ لا يلزم أن يكون له موضوع حتّى يترتّب عليه ذلك.
(واعلم أنّ تمايز العلوم إن كان ليكون القارئ لذلك العلم على بصيرة ممّا يقرأه فهو يكون بالغرض وبالموضوع وبالمحمول ، فيقال له : إنّ علم النحو يفيد صون اللسان عن الخطأ في المقال ، فيذكر له الغرض المقصود منه. وقد يقال له : إنّه يبحث فيه عن الفاعل والمفعول مثلا فيميّزه بذلك.
وقد يقال له : إنّه يبحث عن الحركات العارضة لآخر الكلمة فيميّزه بمحموله. وإن كان تمايز العلوم إنّما يراد كي يكون ميزانا لذكر مسألة فيه في مقام التدوين