الخلاف في كتب السيرة وبينها :
إنّ الدارس لكتب السيرة والتأريخ يلاحظ أنّ ما روته من أنباء الخوارق والمعجزات وغيرها من كثير من الأنباء ، ينقص ثمّ يزيد بزيادة الأزمان التي وضعت فيها هذه الكتب ، فقديمها أقلّ رواية للخوارق من متأخّرها ، وما ورد من الخوارق في الكتب القديمة أقلّ بعدا عن مقتضى العقل ممّا ورد في كتب المتأخّرين.
فهذه ابن اسحاق في السيرةأو قل ابن إسحاق أقدم السّير المعروفة اليوم تغفل كثيرا عمّا ذكره أبو الفداء في تأريخه وما ذكره القاضي عياض في «الشفاء» وعن جميع كتب المتأخرين تقريبا.
فلا بدّ للباحث من أن يقبل لنفسه مقياسا يعرض عليه ما اتّفقوا عليه وما اختلفوا فيه ، فما صدّقه هذا المقياس أقرّه وأقرّ به وقرّبه ، وما لم يصدّقه فلم يورده بل يردّه» (١).
__________________
(١) مثلا : إنّ قصة الغرانيق التي تذهب إلى أن النبي لما ضاق ذرعا بسادات قريش فتلا عليهم سورة النجم حتّى إذا بلغ فيها إلى قوله سبحانه (أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى) أضاف إليها «تلك الغرانيق العلى منها الشفاعة ترتجى» ثم أتمّ السورة فسجد وسجد المسلمون والمشركون!
وقد رواها ابن إسحاق ثم قال : إنّها من وضع الزنادقة. وذكرها ابن كثير في كتابه «البداية والنهاية» فقال «ذكروا قصّة الغرانيق ، وقد أحببنا الإضراب عن ذكرها صفحا لئلا يسمعها من لا يضعها في مواضعها ، إلّا أنّ أصل القصّة في الصحيح ، ثمّ ذكر حديثا عن البخاري في أمرها وأردفه بقوله «انفرد به البخاري دون مسلم».
أمّا الّذي يتخذ عصمة الرسول في تبليغ الرسالة مقياسا للأخذ والردّ ، فلا يتردد في نفي القصّة من أساسها ، بل يتّفق مع ابن إسحاق في أنّها من وضع الزنادقة ، ويكتفي في ردّها بما فيها من نقض ما للرسول من عصمة في تبليغ رسالة ربّه ، كما تقتضي ذلك قواعد النقد العلمي ، كما فعل هيكل في كتابه : ٤٨ و ١٦١ ـ ١٤٧.