واستدراكا لما فات :
واستدراكا لما مرّ نقول : إنّ المدوّن من تأريخ الإسلام ـ بما فيه ممّا مرّ ذكره ـ مع ذلك يعتبر أغنى تأريخ مطلقا ، ذلك لامتيازه بدقته وشموله ، فتراه يلمّح اللمحات ، ويلتفت مع اللفتات ، ويتحرك مع الحركات ، ويتحدث عن الأحداث ، ويتكلّم بالكلمات ، ويقف في المواقف بدقّة وشمول منقطع النظير ، ويملك لذلك من النصوص الشيء الكثير ، بحيث لا يشابهه أي تأريخ مطلقا ، فإنّه ليس بإمكان أي تأريخ آخر أن يثبت الكثير من أحاديثه عن الحوادث الكبرى بصورة قطعية فضلا عن الجزئيات من الامور.
لكن لا بدّ لمن يريد الإفادة من كتب التأريخ الإسلامي من أن يفتح عينه ووعيه لكلّ كلمة منه ، فيطالعها بوعي ويقظة وحذر ، يسعى لاستخلاص ما ينسجم منه مع الواقع ويردّ ما عداه ، ممّا مال به القائل أو لعبت به الأهواء ، ولا سيّما ما يتعلق منه بصدر الإسلام ، ممّا يتحكم فيه الهوى المذهبي والتزلّف إلى الخلفاء والامراء والحكّام فيذكر الأمر منقطعا عن علله وعوامله ومنفصلا عن أسبابه وجذوره ، وذلك بفعل التعصب البغيض والظلم الكثير. فالمؤرّخ كان لا يكتب ولا يثبت إلّا ما ينسجم مع نفسية الحاكم ، ويتّفق وقوله ، مهما كان مخالفا للواقع والحقيقة ، ولاتجاه المؤرّخ عقيدته أيضا ، فهو يشوّه امورا صدرت من الحاكم أو غيره ويحيطها بالغموض والإبهام ، أو يهمل أحداثا ويتجاهل شخصيات لها أثرها في التأريخ ، ويختلق أحداثا أو شخصيات لا وجود لها ، أو يسهب الكلام في وصف غرام أو مجلس رقص أو غناء وشراب ويعنى بامور حقيرة تافهة.
بينما مهمّة المؤرّخ أن يعكس حياة الامة وما عرض لها من أزمات فكريّة واجتماعية وسياسية واقتصادية ، وبصورة عامة كلّ ما مرّت به من أوضاع وأحوال ، وذلك بدقّة وأمانة. وليس بخاف ما في ذلك من الأثر الكثير في حياة الامّة